X
    Categories: اعمدة

عبدالباقي جبارة.. يكتب.. ابراهيم منعم منصور الذي ترك ” عمره خلفه”

في أحد الروايات المأسورة يقال بأن رجل ذو بصيرة قرر أن يسوح في أرض الله الواسعة ويستزيد علما وحكمة حيث مر بقرية قبل أن يدخلها لاحظ على المقابر حولها شواهد الموتى مكتوب عليها أعمارهم لكن سمة لغز لم يفهمه حيث يجد قبر مكتوب عليه البروفسور فلان الفلاني توفى يوم كذا وعمره سنة والدكتور فلان الفلاني توفى يوم كذا وعمره سنتين والمعلم الفلاني توفي يوم كذا وعمره ٣٠ عاما والمزارع الفلاني عمره ٤٥ عاما والعامل الفلاني وعمره ٥٠ عاما والممرض توفي وعمره ٢٥ عاما والقابلة توفيت وعمرها ٢٠ عاما وربة المنزل توفيت وعمرها ٦٠ عاما وهكذا وأثار حيرته كيف برفسور توفي وعمره عام واحد ودكتور توفى وعمره عامين أثنين فقط! فقرر يدخل القرية ويتقصى الأمر حيث وجد الإجابة بكل بساطة فقالوا له أهل القرية بأن عمر الأنسان عندنا لا يقاس بالسنين التي عاشها في الدنيا بل بقدر عطاءه وماذا قدم لأهله ولوطنه فمثلا اذا كنت معلم عملت في التدريس عاميين او ثلاثة ولم تقدم عطاء في أي مجال آخر يصبح هو عمرك الذي يحسب لك ويكتب على شاهد قبرك ..
تذكرت هذه الرواية امس حين نعى الناعي رمزا من رموزنا الوطنية وواحد من أبرز رجالات الخدمة المدنية في عهد الدولة السودانية الحديثة حقيقة لم ألتقيه في حياتي رغم لقائي بشقيقه الناظر عبدالقادر منعم منصور بمنزله العامر بحلفاية الملوك وحدثني عن ابراهيم ب إعجاب شديد الأمر الذي دفعني دفعا واثار غريزتي الصحفية لاتشرف بحوار صحفي لكن قبل ذلك لا بد أن أنقب في مسيرة هذا الرجل الزاخرة بالعطاء لأن حوار مع مثل هذه القامة إذا لم تمسك بناصية مفاتيحه إما خرجت منه صفر اليدين وأما سقطت في درس الحصافة الصحفية وبقدرة قادر أهداني الصديق العزيز الشاب المثقف وجارنا في صحيفة الوطن الاستاذ / عبدالرحمن فتح الرحمن ” محلات زوايا للموبيليا” مذكرات الراحل الناظر الدكتور ابراهيم منعم منصور وهو يتحدث عنه بإعجاب شديد وكلما تناقشنا في شأن وطني عام أو القضايا التي تشغل بال الشعب السوداني إلا ووجدنا لها رابط في مذكرات ابراهيم منعم منصور. وكان اتفاق الاستاذ عبدالرحمن معي بأنه كل ما أقرأ جزء من هذه المذكرات فارده له واستلم منه جزء آخر حيث اكملت الجزء الاول قبل الحظر وبالفعل رددته له واستلمت الجزء الثاني وأكملته ضمن كتب أخرى أثناء فترة الحظر وقبل أن التقي عبدالرحمن بعد الحظر لاستلم منه الجزء الثالث نعى الناعي صاحب هذا السفر الهام الدكتور ابراهيم منعم منصور الغزير بالمعلومات والذي يجسد شخصيته ويعبر عن صدقه وتفانيه وعفته وإخلاصه لوطنه وشعبه ووفاءه لأهله وعشيرته واصدقاءه ومعارفه ورحل هذا الرمز ولم تتحقق امنيتي بالجلوس معه ومحاورته لكن حقيقة وليس مجازا عندما قرأت مذكراته شعرت بأنني جبت معه ديار حمر بغرب كردفان ولعبت معه في حواري مدينة النهود وقارعته بالحجج في مدرسة الدويم الريفية حيث الجمعيات الادبية والزراعية والعلمية كما تحدث عنها في مذكراته وصحبته في رحلته الدراسية بالاسكندرية وعشت معه دخوله الخدمة المدنية بوزارة الصناعة موظفا وجبت معه ولايات السودان خبيرا وتجولت معه في مصنع النسيج وحدثني عن الراسمالية الوطنية الحقيقية خاصة خليل عثمان الذي كان ذراعه اليمين وعاصرته وزيرا للمالية وحدثني عن فن التفاوض مع نظراءه الاقتصاديين من الدول الاجنبية كما حدثني عن فنون الإدارة والعمل النقابي و تحدث بإستفاضة عن مساوي ومزايا حقب الحكم الوطني المتعاقب مدني وعسكري وتحدث عن مخازي بعض رموز القوى السياسية بادب جم وبعفه لسان ولم يورد الا ما قد يستفاد منه لتاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا حيث عاصر حقبة الديمقراطيات الثلاث والحكومات العسكرية الثلاث عبود. نميري والبشير وابت روحه الطاهرة إلا ان ترحل والسودان يستشرف عهدا ديمقراطيا جديدا حيث وورى الثرى جسده الطاهر بمقابر فاروق امس الخميس ١٦ يوليو ٢٠٢٠م واتمنى أن يكتب على شاهده ” الرجل الوطني العفبف النظيف الذي قدم كل عمره الذي عاشه في الحياة لوطنه وشعبه”.. ونحن إذ نترحم عليه في هذه المساحة نقول لأسرته الكريمة نسال الله لكم الصبر وحسن العزاء ويجب ان نذكركم بأن إرث الراحل ابراهيم منعم منصور الفكري والعلمي وتجاربه ملك للشعب السوداني يجب أن تجد حظها من تسليط الضوء عليها وفتح خزائن اسراره بما ينفع شعبه وأهله وعشيرته.. تقبله الله قبولا حسنا واحسن إليه.. ولا نقول إلا ما يرضي الله إنا لله وإنا إليه راجعون