X
    Categories: اعمدة

موسى عبدالله .. يكتب ..” من ذاكرتي ومفكرتي ” الصادق المهدي غياب الجسد وحضور الفكر والمنهج

من ذاكرتي ومذكراتي
موسى عبدالله اسماعيل
٢٥/ديسمبر..الصادق المهدي..غياب الجسد وحضور الفكر والنهج
٢٥/ديسمبر هو تاريخ ميلاد الامام الصادق المهدي- عليه رحمة الله- وهو تاريخ يتزامن مع تاريخ ميلاد المسيح عليه السلام.درجت اسرة الامام ان تحتفل وتحتفي بعيد ميلاده هذا كل عام ،وكان قد افاد الامام بان والدته السيدة رحمة عبدالله جادالله -عليها رحنة الله-هي التي ابتدأت الاحتفال بميلاده ثم سارت الاسرة على دربها.فعلى مدى سنين طويلة كنت احضر هذا الميلاد الذي يتحول الى منتدى سياسي اجتماعي اقتصادي فكري بحضور الرموز الوطنية والاعلامية والدبلوماسية كما لقائه (لقاء السياسة والصحافة)،فالامام يجذبك بحديثه السلس وادبه الجم وعاطفته الانسانية،فيشدك من قلبك قبل اذنيك.لكن هذا العام ٢٠٢٠م يغيب المحتفى به لكنه غيابا جسديا فهو حاضر بفكره الثاقب وثقافته الموسوعة ووسطيته وتاريخه العظيم ونهجه القويم، تغيب عنا في هذا الميلاد قسماته وبسماته الجميلة ومحياه الانيق ،رجل اذا تكلم اسمع بل واسر،واذا صمت تأمل،وهو يم الدرر زاخر بالحب لعامة الناس حتى خصومه السياسيين يبادله الحب والمودة ويبادلونه،فهو صافي القلب نقي السريرة،لا يخاصم بقدر ما انه مجامل رجل رياضي بالدرجة الاولىيحب الفروسية ولعبة البولو،قوي الجسم كما هو قوي الارادة والعزيمة يتمتع بالتحمل وخاصة اذى السياسة والاعلام،فهو كريم و مسامح جميل الصفح،ففي (ذاكرتي ومذكراتي) العديد من الموضوعات حوله ولكن ساجتر القليل من خلال لقاءاتي به، وهو رمز وطني متاح لكل من يقصده،لكن هنالك لقاءات محفورة في الذاكرة ابرزها لقاءاتي معه في برنامج مؤتمر اذاعي بالاذاعة السودانية امدرمان وبرنامجي( جذور الوحدة ) و (مراجعات) الذي كان سر نجاحهما الاستاذ عبدالعظيم عوض، لكن يظل لقاء الطفولة البريء في ثمانيات القرن الماضي هو اول هذه اللقاءات،حينما اقدم سيد صادق على تدشين حملة مرشحه الانتخابية بعيد انتفاضة ابريل ١٩٨٥م الاستاذ مكي يوسف النصيبة بالدائرة ٧٦ بالنيل الابيض الذي كان رمزه القطية،اقدمت بكل جرأة وانا يافع بعد على مصافحة سيد صادق مما حدى بكبار رجالات حزب الامة ان بصافحوني ولكن والدي -عليه رحمة الله – كان يمازح معي :(ينبغي الا تصافح احد بعد سيد صادق) فوقتها لم يكن اماما لانصار،واذكر في ذلك الوقت جموع الانصار قد رفعت شعاراتها بصوتها وبصمتها،وهي مهللة ومكبرة وتردد (حزب الامة امل الامة،لن نصادق غير الصادق،الصادق امل الامة) وترفرف راياتها البيضاء والسوداء والخضراء وهي تشهر السلاح الابيض وشاعر حزب الامة – والدي -يلهب حماس الجماهير بمكبر صوت متحرك،فقصصت كل ذلك والمصافحة للامام داخل قطيته في بيته بالملازمين وادركت معنى القطية التي كانت رمزا لمكي النصيبة في الدائرة ٧٦ بالنيل الابيض،فكان رد الامام :(انت انصاري بالفطري) فقلت له:بل من الحواريين،وتوالت اللقاءات معه الى ان هاجر في عملية تهتدون ثم وقع حزب الامة في جيبوتي (نداء الوطن) وعاد الامام اثر ذلك في عملية تفلحون.فبعيد انفصال الجنوب سجلت مع الامام حلقتين فب برنامج مراجعات الاذاعي في التاسع عشر من ديسمبر ٢٠١١م فكان متجليا كعادته مشبعا للمستمعين سياسة واقتصادا وفكرا،واهم نا يميزه قبوله للاخر وقبولة للنقد وهو يعشق الديمقراطية والحرية،فمن الصعوبة ان تجد قائدا مثل الصادق المهدي في سوح السياسة والفكر محليا واقليميا وعالميا،فان رسوخ قدمه في كثبان رمال السياسة المتحركة قد اكسبته ميزات عديدة وعظيمة كما ابحرت سفينته في بحر السياسة المتلاطم الامواج،فمكنته اشرعته من حكم السودان في عهدين بعد ثورتي اكتوبر ١٩٦٤م وابريل ١٩٨٥م وكان ان يفعلها بعد ثورة ديسمبر ولكن وافاه الاجل وطول امد الفترة الانتقالية،فاذا كان قصرت المرحلة الانتقالية لذهب الناخبون الى صناديق الاقتراع واختاروا القوي الامين اوالصادق الامين،فالامام كما سبق وهو عاشق للديمقراطية وخير دليل تأليفه لكتابه(الديمقراطية راجحة وعائدة) ،وكم رحب بها حتى عندما كانت لم تكن في مصلحته ومصلحة حزبه! وكم كان حزبه وهو ضحية لها،فبعد الاسقلال وهو يرى السلطة تنزع منه بعد تحالف الازهري والميرغني،وكذلك بعد انقلاب نوفمبر وبعد اكتوبر وبعد مايو!!فسيد صادق رجل كبير القلب سليم السريرة وهو تصالحي متصالح مع نفسه ومع الاخرين ،فبعد انقلاب مايو سعى للمصالحة مع الرئيس الراحل جعفر نميري رغم ضرب مايو للانصار في ودنوباوي والجزيرة ابا معقل الانصار فاثر ذلك هاجر الامام الهادي بل واستشهد على مشارف الكرمك بالنيل الازرق وهو في طريقه لاثيوبيا، لان بها حاكم عادل،فلم يستمر في خصومة مايو،ثم عينت مايو اماما للانصار في مخالفة كبيرة لشورى الانصار ،كل ذلك لم يمنع سيد صادق من السير في درب المصالحة!!فدوما كان يردد:
اذا احتربت يوما فسالت دماؤها
تذكرت القربى فسالت دموعها
فالسودان اليوم وفي ذكر ميلاده ٢٥/ديسمبر يفتقد الامام في احلك الظروف في هذا المنعطف الخطير (ففي الليلة الظلماء يفتقد البدر)،فهو زعيما سودانيا اصيلا خبيرا بدروب السياسة ووحلها فهو مدرسة سياسية راقية ومهذبة تتسم بالفكر والمنهج،فقد قال عنه الرئيس الراحل جعفر نميري في كتابه (النهج الاسلامي لماذا؟):( شجاعته كانت دليل على صدقه،لقد كان الرجل صادقا…والرجل نفس الرجل بحكم نشاته وفكره واصوله وثقافته ومعايشته لواقع بلاده ،فهو مع التنمية ضد التخلف ومع الحداثة والمحافظة على الاصل..والرجل مفكر اسلامي يشاطرني الايمان بان الاسلام كان باعث حضارة وانه لا بديل عنه لقيام حضارة…) وهكذا تصفه خصومه قبل احبابه واصدقائه ومريدوه،فالرجل سياسي حصيف جيد التفكير داخل منطقة الجزاء السياسية للخصم ولا يلعب بخشونه بل يخلخل دفاعات المنافس مع الاحتفاظ بكرة السياسة ويعرف متى يقذف بها ويسددها في شباك الخصم فيخرج من اللقاء نظيف وينال نجومية اللقاء.
ففي يوم الجمعة الخامس من ابريل نعى الصادق المهدي نظام مايو في صلاة الجمعة بمسجد ودنوباوي وفي صبيحة السبت اندلعت انتفاضة ابريل ١٩٨٥م وسقط نظام مايو.اما في نظام الانقاذ فكان من اوائل المناضلين والمعتقلين،فجاء الامام الخرطوم في التاسع من ديسمبر من منفاه الاختياري في لندن بعد ان استغنى عنه نظام المشير السيسي في مصر على غير العادة،اذ ان مصر كانت تحتضن كل اللاجئين السياسيين السودانيين واخرهم الفريق قوش،في خطوة غير مسبوقة ومستغربة استغنت القاهرة عن الامام ومنعته من دخولها،فعاد في التاسع عشر من ديسمبر وهو تاريخ له مغزاه السياسي والوطني والتاريخي فهو تاريخ اعلان الاستقلال من داخل البرلمان،وهو يمثل كذلك هبة كبرى لاسقاط نظام الانقاذ ،فهو قد اضاف نكهة وتوابل لمشروع الثورة لانه يملك فاعلية سياسية قوية وشعبية كثيفة،لذا تهابه كل الانظمة العسكرية،فهو يشتم رائحة الخطر ويتنبأ بالعاصفة السياسية قبل ان تهب عاتية وتقتلع كل الخيام السياسية بما فيها خيمة الاعتصام مؤخرا،لكن مرات عديدة هبت العاصفة تلقائه لانه يؤمن بديمقراطية جزلة تجعله لا يستبق الاحدات عمليا لذا يكون هو اول ضحاياها فحدث هذا في عدة حقب تاريخية يقود هو دفته لكنه كان يحرص دوما على التوافق والائتلاف الوطني ايمانا منه بعدم (فش غبينته) فنهج الامام نهج تصالحي بالفطرة لذا تجاربه مع الانظمة العسكرية لم يكتب لها النجاح،ولم يشارك في نظام دون انتخاب،فاعتقل الامام الذي صدع الانقاذ من بدايتها في السادس من يوليو ١٩٨٩م لمدة (١٦) شهر ومكث في سجن كوبر وما اظراك ما كوبر ،حيث اسوأ سجن ،فظل يتابع الاوضاع السياسة والامنية والاقتصادية،بل وظل يكتب ويالف وخير منتوج فكري كتابه (تحديات التسعينيات) الذي نظر فيه من ضمن التحديات مشكلة جنوب البلاد وابعادها وعلاجها وينبغي الا تحل بحل عسكري حتى لا ينفصل الجنوب،وكان الامام قد قال :(اذا حدث انفصال فان الشمال يرث وحدة كل ثمار التنمية ولا يرث الجنوب سوى الفقر ومشاكل قبلية مستعصية…لتكون دولة الجنوب مقومات بقاء…) وهذا ماحدث!!فاشتد الصراع القبلي بين كبرى قبائل الجنوب الى يومنا هذا.
فالامام يغيب عنا في ذكرى ميلاده هذه ٢٥/ديسمبر لكن افماره ونهجه القويم موجود بيننا اذا تم العمل به وهو ثروة قومية لحل جميع المشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية؛العقد الاجتماعي،وعسكريا،الم يقل الامام ان القوات المسلحة تاريخيا تكونت في ظروف لم تاخذ في الحسبان مبدأ المشاركة العادلة لكل اهل السودان في قيادتها وقاعدتها،وهو يعني منذ تكوينها وتاسيسها ولا يعني في نظام محدد، قلة تأمر اكثرية فتنفذ ، ويضيف الامام :انه ينبغي اعادة هيكلة القوات المسلحة بما يجعلها مرآة صادقة التمثيل لاهل السودان واداة قومية للدفاع والمحافظة على وحدة البلاد وحماية حدودها.الم اقل ان الامام يغيب عنا في ذكر ميلاده لكنه حاضرا فكرا ونهجا ومواكبة؟فالنظام القضائي العادل هو الذي يحفظ الحقوق ويرد الظلم،فالعدل هو اساس الحكم، ويضيف الامام فان الظلم لا دولة له والاستبداد والطغيان لا سلطة له،طال الليل ام انجلى الصبح،وهكذا يتحفنا الامام،فعلى الساسة ان يتعلموا من هذه المدرسة الفريدة،غالصادق رجل عالمي الفكر والقيادة ،فقد شارك وقدم العديد من الاوراق والرؤى في محافل فكرية اقليمية ودولية وهو شرف للسودان والسودانيين،بالاضافة الى ذلك فهو رجل محبوب ،فقد كان تشييعه خير دليل وشاهد على حب الناس له،كل الناس، بمختلف مشاربهم وسحناتهم واعراقهم وتوجهاتهم الفكرية والسياسية،لعن الله الكرونا واجتثها، فالجموع التي شيعت الامام تجمد الدم في شرايينها وفاضت دموعها على المآقي ،ونعلم ماذا تعني دموع الرجال،فهذه الجموع التي شيعته الى مثواه الاخير فاقت بكثير تلكم الجموع التي شيعت الامام الهادي عندما تمت اعادة تشييعة مرة اخرى من مرقده بالقرب من الكرمك بالنيل الازرق الى قبة الامام المهدي حيث جده وشقيقه الامام الصديق ،فالذي اكرمه واحضره لهذه القبة هو الامام الصادق المهدي عندما كان رئيسا لمجلس الوزراء بعد انتخابه في الديمقراطية الثالثة ،انظروا الى هذا العمل الانساني التاريخي ،وهو لا يحدث الا من سيد صادق،فانا لم اشاهد تشييع مثل تشييع الامام الهادي الا تشييع الامام الصادق،فان تشييع الامام الصادق في خواتيم نوفمبر الماضي هو استفتاء رسمي وشعبي على حب السودانيين له.
الا تقبل الله الامام الصادق قبولا حسنا عنده وانزل شآبيب رحمته عليه…واليه المرجع والمآب
موسى عبدالله اسماعيل
(من ذاكرتي ومذكراتي)
٢٤/ديسمبر/٢٠٢٠م