X

د . ابراهيم زالنقا .. يكتب .. ورحل الطبيب المعجزة ” زاكي الدين ” في صمت .. الذي أنحنى له أمبراطور اليابان

في ﻣﻨﺘﺼﻒ ﺍﻟثمانينات أمسكت اﻣﺮﺃﺓ يابانية في مدينة اﻟﺨﺮﻃﻮﻡ بطنها ﻭصارت ﺗصرخ من الالم.
– ﻫﺬﻩ الصرخة انجبت ﻣﺴﺘﺸﻔﻰ ﺍﺑﻦ ﺳﻴﻨﺎ ﺃﻋﻈﻢ ﻣﺴﺘﺸﻔيات ﺍﻟﺨﺮﻃﻮﻡ.
فهذه ﺍﻟﻴ ﺎﺑﺎﻧﻴﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺯﻭﺟﺔ ﺳﻔﻴﺮ ﺍﻟﻴﺎﺑﺎﻥ ﻓﻲ ﺍﻟﺨﺮﻃﻮﻡ ﻭﻛﺎﻧﺖ في الوقت نفسه ﺍﺑﻨﺔ ﺍﻣﺒﺮﺍﻃﻮﺭ ﺍﻟﻴﺎﺑﺎﻥ.
ومع استمرار صراخها استنجد ﺯﻭﺟﻬﺎ ﺍﻟﺴﻔﻴﺮ ﺑﺎﻟﺨﺎﺭﺟﻴﺔ السودانية، ﻭوجهته ﺍﻟﺨﺎﺭﺟﻴﺔ ﺍﻟﻰ احد المستشفيات . فانطلق بها الرﺟﻞ اﺇﻟﻰ هناك لأسعافها وﻫﻨﺎﻙ ظهر له ان امكانيات المستشفى متواضعة – فطلب ﺍﻟﺮﺟﻞ ﺍﻟﻤﻔﺰﻭﻉ ﻣﻦ ﺍﻟﻄﺒﻴﺐ ﺃﻥ ﻳﺘﻜﺮﻡ ﺑﻤﺎ ﻳﻜﻔﻲ (ﻟﺘﺴﻜﻴﻦ) ﺃﻟﻢ ﺍﻟﻤﺮﺃﺓ ﺣﺘﻰ ﺗﺼﻞ ﺍﻟﻰ ﻣﺴﺘﺸﻔﻰ ﺧﺎﺭﺝ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻥ. لكن ﺍﻟﻄﺒﻴﺐ المشرف على المريضه ”ﺯﺍﻛﻲ ﺍﻟﺪﻳﻦ ﺃﺣﻤﺪ ﺣﺴﻴﻦ” نظر ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺴﻔﻴﺮ ﻭقال له ﺑﻬﺪﻭﺀ:
ﻣﻌﺬﺭﺓ، ﻟﻜﻦ ﺍﻟﻤﺮﺃﺓ ﻫﺬﻩ ﺑﻘﻲ ﻟﻬﺎ ﺳﺎﻋﺘﺎﻥ ﻟﻠﺠﺮﺍﺣﺔ .. ﺍﻭ ﺍﻟﻤﻮﺕ .
– ﻭﻟﻌﻠﻪ ﺍﻟﻔﺰﻉ ﻭﺍﻟﻴﺄﺱ ﻫﻤﺎ ﻣﺎ جعلا ﺍﻟﺴﻔﻴر ﻳﺴﺄﻝ ﺯﻭﺟﺘﻪ ﻋﻤﺎ ﺗﺮﻳﺪ ﺃﻥ ﺗﻔﻌﻞ، فاجابته:
ﻧﻌﻢ .. ﺍﺧﻀﻊ ﻟﻠﺠﺮﺍﺣﺔ .. ﻫﻨﺎ.
– ﻭأجرى الدكتور اﻟﺪﻛﺘﻮﺭ ﺯﺍﻛﻲ ﺍﻟﺪﻳﻦ ﺍﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﺍﻟﺠﺮﺍﺣﻴﺔ . ﻭبقي ﺍﻟﺴﻔﻴﺮ ﻳﻨﺘﻈﺮ في الخارح ويهيء نفسه لسماع ﻧﺒﺄ ﺍﻟﻮﻓﺎﺓ ….
– ﻟﻜﻦ باب غرفة العمليات فتح و بشره زاكى الدين بنجاح العملية و بعدها خرجت ﺍﻟﻤﺮﺃﺓ من المستشفى ﺗﻤﺸﻲعلى ساقيها و بكامل صحتها ..
– و طار بها ﺍﻟﺴﻔﻴﺮ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻴﺎﺑﺎﻥ، ﻭﻣﻦ ﺍﻟﻤﻄﺎﺭ ﺇﻟﻰ ﺃﺿﺨﻢ ﻣﺴﺘﺸﻔﻰ .. ﻓﻬﻲ ﺍﺑﻨﺔ ﺍﻻﻣﺒﺮﺍﻃﻮﺭ.
– ﻭﻫﻨﺎﻙ أخضعوها للفحص الدقيق.
و بعد الاطمئنان ان كل شيعلى مايرام و العملية ناجحة تماما أخذت ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﺍﻷﻃﺒﺎﺀ ﺗسأﻝ السفير:
ﺃﻳﻦ ﺃﺟﺮﻳﺖ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻌﻤﻠﻴﺔ، ﻭﻣﻦ ﻗﺎﻡ ﺑﻬﺎ؟ اخبرهم انها اجريت بالسودان ﻓﻲ أفريقيا .. ﻭﻃﺒﻴبها ﺍﺳﻤﻪ: ﺯﺍﻛﻲ ﺍﻟﺪﻳﻦ
فأخبروه ان الطبيب قام بمعجزة طبية بأمكانيات عاديه.. و العمليه اجريت بكفاءه عاليه و لا بد من تكريمه و ﺩﻋﻮة ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻄﺒﻴﺐ لليابان .
– ﻟﻜﻦ ﺍﻟﺪﻋﻮﺓ ﻟﻠﺒﺮﻭﻓﻴﺴﻮﺭ ﺯﺍﻛﻲ ﺍﻟﺪﻳﻦ أتت ﻣﻦ اﻣﺒﺮﺍﻃﻮﺭ اليابان نفسه.
– ﻭﻫﻨﺎﻙ ﺴﺄﻟﻮه:
ﻣﺎﺫﺍ ﺗﺘﻤﻨﻰ .. ﺃﻃﻠﺐ ﺃﻱ ﺷﻲﺀ ..
العجيب لم يطلب شي لنفسه !!
بل ﻗﺎﻝ : ﺍﻃﻠﺐ ﻣﺴﺘﺸﻔﻰ ﻟﻠﺴﻮﺩﺍﻥ، ﻣﺴﺘﺸﻔﻰ ﺣﺪﻳﺚ
-فكان ﻣﺴﺘﺸﻔﻰ ﺍﺑﻦ ﺳﻴﻨﺎ المعروف الان و الكائن بشارع ١٧ بإمتداد الخرطوم المعروف بالعمارات .

و كنت محظوظا و تشرفت بالعمل و التدرب لدى هذا النطاسى البارع و لازمته من ١٩٨٨ حتى ١٩٩٢ فى مستشفى ابن سينا و نهلت من فيض علمه و خبرته و اهم شئ اسلوبه الفريد فى التدريس و التعامل
ان زاكى الدين جامعة طبية قائمة بذاتها و دوره محورى فى تاريخ التدريس و التعلبم الطبى و تأسيس خدمة الجراحة فى السودان و قد درب العديد من الجراحين السودانيين و شارك فى تدريس مئات من طلبة الطب .
و قد كان عبقريا فى مجاله فقد كان يشخص اصعب الحالات بمجرد ان يقع نظره على المريض و يكشف عليه سريريا و قبل اجراء اى فحوصات او أشعات . و قد كان سباقا و رائدا فى الطب و الجراحة الحديثه و قد كان عاملا على ادخال المناظير الجراحية فى السودان بمجرد ظهورها و قبل انتشارها فى العالم بعشر سنوات . و قد عمل على دمج المدرسة البريطانية و هى المؤسسة التقليدية التى يتبعها السودان فى الجراحة و الجهاز الهضمى و التدريس الطبى مع المدرسة اليابانية المتقدمة جدا فى هذا المجال و اقام علاقة توأمة مع المركز الطبى لجامعة اوكاياما و كانت هناك بعثات طبية سودانية منتظمة بين مستشفى ابن سينا و هذا المركز كما ان الاتفاقية الموقعة بين JICA الوكالة اليابانية للتعاون الدولى و وزارة الصحة زودت مستشفى ابن سينا بزيارات خبراء يابانيين سنوية يحضرون و يقدمون خبراتهم للسودان و يدربون السودانيين فى مجال الجهاز الهضمى و زراعة الكلى و بلغ من اعجاب اليابانيين بنجاح مستشفى ابن سينا ان مددوا تعاونهم الى عشر سنوات بدلا من سنتين بل و اوفدوا جراحين يابانيين مهتمين بجراحة المناطق الحارة و ممرضات الى مستشفى ابن سينا ليتدربوا و يقوموا بأبحاث عندنا فى جراحة المناطق الحارة كل هذا مجانا و كل المعدات و الاجهزة و الادويه حتى الخيوط و القفازات الجراحية كانت تصل و بإنتظام مجانا مباشرة الى المستشفى و قد كنت شاهدا و مشاركا فى كل ذلك.
كان اليابانيون معجبون بتقدم فن الجراحة فى السودان و لم يكونوا يتصوروا ان فى هذا البلد الافريقى اشخاص و كوادر تستطيع استيعاب و أجراء هذه العمليات المعقدة و المتقدمة فى امراض الكبد و سرطانات البطن و كنت آخذهم فى جولات داخل العاصمة… و كلهم … و على مدار السنوات …. و لا ادرى لماذا … اعجبوا بشكل خرافى بمكتبة جامعة الخرطوم و امتلائها بالكتب و ازدحامها بالطلبة مع الهدوء و السكينه التى تلف المكان ..كان هذا المنظر يأسرهم .. و كذلك اعجبوا جدا بمصنع سكر كنانه الذى كان زاكى الدين ينظم رحلات له بالتنسيق مع ادارته ليضطلعوا على امكانيات هذا البلد …و كانوا يقولون لى انتم السودانيون محبون للعلم و عندكم انجازات ضخمه مثل مصنع كنانه فلماذا لديكم مشاكل فى التنمية؟
كانت حكومة اليابان و من واقع التقارير التى ترسلها JICA راغبة فى مزيد من الدعم للسودان و كانوا يخططون لأرسال اجهزة تصوير طبقى محوسب و التوسع فى البعثات الى اوكاياما .. الى ان جاءت كارثة الانقاذ و بإصرار غريب ضايقوا زاكى الدين و عاكسوا البعثة اليابانية بل ان بعض المغرضين منهم اتهموا المستشفى بالفشل و ارسلوا لجنة تحقيق من الوزارة لإدانة زاكى الدين بالتقصير و ابعادة و الفريق العامل معه لإدخال كوادرهم فى هذه المؤسسة الطبية كما فعلوا فى كل السودان و كان وكيل وزارة الصحة فى ذلك الوقت يحضر الى المستشفى متلصصا بعد منتصف الليل باحثا عن اخطاء ليتخذها ذريعة لدمغ ادارة المسشفى بالتقصير و كان يحضر معه جراح دربه زاكى الدين للاسف و كان متسلقا متواطئا مع الانقاذ و قد كافأته حكومة البشير فيما بعد بتعيينه مديرا لمستشفى الخرطوم حيث شارك فى تخريبها ايضا.
كل هذا اجبر زاكى الدين لتقديم استقالته.. مما ادى الى استياء البعثة اليابانيه المقيمة و السفارة اليابانية و انتهت بذلك اتفاقية التعاون السودانى اليابانى الطبيه .
وكنت اتحدث مع هذا الطبيب الذى خان استاذه و مستشفاه و بلده عن الخسارة التى خسرها السودان من جراء توقف التعاون اليابانى و خطأ ابعاد زاكى الدين .. فقال بكل وقاحة … طبعا حكومة السودان بتحتاج ناس يشتغلوا ليها فى الحاجات و العلاقات الدولية دى … لكن اذا الناس ديل اختلفوا مع الوكيل… يقصد و كيل الوزارة… خلاص يمشوا.
بعد ذلك قامت جامعة الخرطوم بإعادة تعيين زاكى الدين كأستاذ فى قسم الجراحة و مستشفى سوبا الجامعى لأنه اصلا عند عودته من انجلترا كان استاذا بكلية الطب ……حيث ظل يعمل بها حتى وافته المنية رحمه الله
توفي هذا الجراح القدير .. د.زاكي الدين احمد حسين يرحمه الله.
توفي دون أن يدري أحد به.
لا موكب مهيب ولا وداع يليق.
و لأنه عالم جليل محب لبلده منكر لذاته … ننشر هذا المقال تقديراً لهذا الرجل الإنساني العظيم الذي لم يفكر في مصلحته الشخصية ولكنه كان أكبر من كيانه الخاص، لقد كان كبيراً بقدر مساحة وطنه وامانته الطبية.