X

جعفر عباس .. يكتب .. كوستي أرض جرجس وكل جنس

كانت كوستي التي أعرفها وأعشقها واحتضنت عائلتي منذ أن وفد اليها والدي في أربعينات القرن الماضي مدينة جميلة وغنية بأسواقها وأنشطتها الاقتصادية والثقافية والسياسية والاجتماعية، وكانت كأم درمان حاضنة لكوكتيل من المواطنين الذين وفدوا اليها من كل اصقاع السودان، ثم صاروا كوستاويين بعد ان انصهروا في مجتمع المدينة المتلاحم وخلعوا جلابيبهم القبلية والمناطقية، وعاشوا متناغمين في مدينة كان الشمام واليطيخ والموز والسمك فيها طعام العامة، وكان في النبرو على شواطئ النيل الأبيض خضار بالمجان لمن يرغب.
كانت كوستي هي المركز الذي تدار منهم مشاريع النيل الأبيض العملاقة وكانت زريبة المحاصيل في كوستي هي البورصة غير الرسمية للفول السوداني والصمغ الواردين من كردفان، ثم حاق بها غضب جعفر نميري فنقل مركز الثقل الإداري لمحافظة النيل الأبيض الى الدويم والمرجح انه فعل ذلك لأن النفوذ السياسي في كوستي كان لحزبي الامة والاتحاديين كما كان للشيوعيين حضور قوي في السكة حديد والنقل النهري، ومعلوم ان كوستي كانت أكبر ميناء نهري في افريقيا ومنها تنطلق اساطيل البواخر جنوبا، ومعلوم ان عصابة عمر البشير دمرت فيما دمرت قطاع النقل النهري ببيعه بتراب الفلوس لحفنة من اللصوص، ثم سلط نظام البشير على ولاية النيل الأبيض رجلا مغرورا هو يوسف الشنبلي تعمد تحطيم ما تبقى من خدمات في كوستي بل عادى حتى قيادات إسلاموية من أبناء المدينة أمثال أبو عبيدة العراقي الذي كان لحين من الدهر معتمد كوستي والطيب الجزار وزير التخطيط العمراني
يتم حاليا عبر واتساب تداول صور لابن كوستي ماريو إبراهيم (مرفقة) وهو منهمك في إعداد الإفطار للصائمين المعسرين، وقد يثير عجب غير أهل كوستي ان يروا مسيحيا يعد الأكلات السودانية الرمضانية التقليدية لتوزيعها على المسلمين ولكن كوستي لم تكن وعاء تنصر فيه إثنيات السودان وحدهاـ فقد كان فيها أغريق وهنود يعتبرون أنفسهم أهل بلد ومندمجون في أجواء مجتمعها، وكان مشهد الخنازير (كانت تسمى الكداريك ومفردها كدروك) والديوك الرومية وهي تجوس حي المرابيع والسوق مألوفا، وليس محل استنكار أحد، ولا أعرف في غير كوستي بقالة كانت تديرها النساء، فقد كان عم “تقلا” يوكل أمر دكانه الى بنتيه الجميلتين ولم يحدث ان تعرضتا لأي قدر من التحرش، وأذكر ان خواجة يونانيا كان يملك صيدلية خلف مبنى البريد ثم تعرض عدد كبير من أبناء كوستي لحادث سير نجمت عنه وفيات واصابات فوضع اليوناني هذا وضع الصيدلية تحت تصرف مستشفى المدينة بأن ترك بابها مفتوحا ليأتي مناديب المستشفى ويأخذوا منها ما يلزم من معينات طبية بينما ظل هو في المستشفى يساعد في علاج الجرحى وكان من حق كل عامل بالمستشفى ان يدخل الصيدلية ويأخذ منها كل ما يلزم لمداواة ضحايا الحادث
كان لكوستي وما زال أبناء خُلَّص شادوا المدارس والمراكز الصحية والمساجد على نفقتهم، وعطفا على سيرة ماريو هذا وتأكيدا لحقيقة أن كوستي كانت الوطن الصغير لكل من عاش وكسب قوته فيها أتوقف عند سيرة الدكتور جرجس عياد إسكندر، والذي أحبه أهل كوستي كما لم يحبوا شخصا من قبل، فقد كان الرجل يدير عيادته على أساس شبه خيري من حيث الرسوم وعينات الدواء المجانية، وكان بالعيادة فناء واسع فيه بروش طويلة ممدودة لصلوات الجماعة، وكان أهل الأرياف والبوادي على نحو خاص لا يقبلون التداوي إلا عند جرجس، وكثيرون من اهل كوستي ما زالوا متواصلين مع أولاد وبنات جرجس الذين تبعثروا مثل الكثير من السودانيين في كل واد، وأنتج الأستاذ مصطفى الجيلي فيلما تسجيليا عن هذا الرجل الانسان بعنوان “جرجس طبيب الفقراء”