X
    Categories: اعمدة

الحديث عن البروفيسور كمال أبو سن كثير التفاصيل … فهو في المقام الأول طبيب إنسان بكل ما تحمل الكلمة من معنى ..أراد ان يفيد بني وطنه بعلمه الغزير في مجال زراعة وعلاج الكلى ..أسهم في توطين علاج زراعة الكلى في السودان وجلب الأطباء من خارج السودان حتى يدرب الكوادر الطبية بوطنه وذلك على نفقته الخاصة وبعدها أقام صروحا علاجية في عدد من مستشفيات العاصمة وعمل على توسعة الرقعة التعليمية بالولايات
فدرب عددا من الكوادر الطبية في مدني ودنقلا والأبيض وكوستي وبورتسودات وغيرها من مدن السودان كما أنه كان يقبل كل من يرغب في الانضمام لطاقمه الطبي من الأطباء ويسمح لهم بالدخول لغرفة العمليات للتدريب وتطوير الذات، ويحافظ علي كل معارفه وينمي العلاقات الاجتماعية ويلبي كل دعوة اجتماعية تقدم له رغم ضيق زمنه فهو يؤثر تطييب الخواطر على حساب صحته وراحته فشكل قاعدة صداقات عريضة جمعت كل شعب السودان بمختلف الطبقات والأعمار والفئات المهنية، بعد الفبركة الدرامية الظالم التي حيكت ضده إبان العهد البائد وفي فترة محاولته لإرجاع حقه قانونيا نقل خدمته وعمله لدول الجوار ليستمر في خدمة أبناء شعبه كما يدفعه هدف آخر هو تطوير المهنة بأفريقيا. فوسع دائرة التنمية الطبية في كل من إثيوبيا والصومال واريتريا وكينيا ونيجويا وجنوب السودان وأخيرا تشاد حيث وافته المنية .. قبيل سفره الأخير إلى تشاد حدثني عن معاناة أهل تشاد في الحصول على العلاج وسوء الوضع الصحي فيها، التمست من خلال حديثه أنه مهموم بذلك كثيرا وأوضح لي بالكلمات أن جل اهتمامه هو الارتقاء بالوضع الصحي خاصة في جانب الجراحة العامة وزراعة الأعضاء وجراحة المناظير التي أخبرني أنه بدأ يدرب أو يساعد بالتنسيق مع بعض الكوادر الطبية للتدريب على جراحة المناظير في مواقعها بالخرطوم مثل مستشفى فضيل وغيره وأذكر أنه قال : (تصوري المساكين ديل بسافروا بره تشاد عشان يتعالجوا وده بيأثر في استفحال الأعراض ويذيد من خطر المضاعفات) خرجت تلك الكلمات من فيه بنبرات حسرة وألم ففي فترة وجوده الأخير بالبلاد كان كثير الولع بتشاد وتطويرها ومعالجة المرضى بها ، كنت كلما التقيته لزيارة مريض أو تلبية دعوة تطيب خواطر كان يدير كثيرا من المحادثات مع احد الكوادر السودانية بانجمينا (حسن عبدالمنعم سعيد ) محضر عمليات للتنسيق والترتيب لمقابلة مرضاها خلال سفره الذي لم يعد منه
اذكر انه في أيام عمله بمستشفى الجنوبي الخاص بالخرطوم بإجراء العمليات حيث أجرى عمليات عديدة منها عملية زراعة لشقيقة المرحوم لاعب الهلال الراحل والي الدين محمد ” عزيزة ” التي تقدم أحد معجبي الراحل للتبرع لها وحضر وكله شجاعة للتبرع وتقدم لغرفة العمليات وشكل الإعلام وقتها حضورا كبيرا كيف لا وهي أخت محبوب الملايين الذي لمع اسمه في قائمة فريق الهلال والفريق القومي ، وأذكر أن الراحل أبوسن استوقفه سائلا عن الأوراق القانونية للعملية حتى يدخله لغرفة التحضير فاستغرب المتبرع قائلا ليست هنالك أوراق وأنا تحدثت في الإعلام أنني متبرع لأخت والي الدين لوجه الله لكن دكتور ابوسن رحمه الله رفض وطالبه بالذهاب إلى هيئة القضاء بمكاتب رئاسة القضاء وعلية أن يأتي بورقة قانونية من هناك عليها ختم المحكمة وإمضاء القاضي تنص على تبرعه بكامل إرادته وقواه العقلية وأردف قائلا : لا يمكن أن تجرى عملية نقل من متبرع إلى متلق دون ذلك الإجراء فهذا أمر يحاكم عليه القضاء ويسألنا منه رب العالمين
فهو حرام شرعا وممنوع قانونيا. وفي مطار الخرطوم في اواخر سفرياته التقيته ليطلع على أوراق فحوصات نقل كلى
لمريض كانت ابنته تنوي التبرع له وطلب مني أن أحمل بعض الأوراق إلى الدكتور أبوسن .. وبالفعل قرأها ووجددها سليمة وتضمن العيش بأمان لكليهما ( المريض والمتبرع ) فاتصلت بالمريض واعطيته الهاتف ليخبره بنفسه إلا أن المريض فاجأه بطلب أن يغير له المتبرع إلى متبرعين آخرين يعرفهم بدلا عن ابنته التي تمنعه عاطفة الأبوة من أخذ كليتها .. عندها غضب الدكتور وانتفض في حديثه قائل : لا يمكن ذلك .. فأنا طبيب أقوم بواجبي كطبيب وليس لدي أي معرفة بمن يريد أن يتبرع أو خلافه .. وعليك أن تبحث عن مقصدك بعيدا عني .. وأردف قائلا : هذا الأمر لا يقبله شرع ولا قانون ولا أخلاق .. وطمانه رغم غضبه قائلا : أنت أحسن متبرع ليك هو ابنتك وأضمن ونسبة النجاح أكبر وتعرف انا كمان عايش بكلية واحدة ولي واخد وعشرين سنه فما في مشكلة بتجيكم … حياك الله مع السلامة .. وأنهي المكالمة ووبخني على ذلك ولكنني أخبرته بأنني تفاجأت مثله .. ثم ذهب لحاله وهو يجر شنطة كبيرة على غير العادة فمازحته 🙁 أنت ح تسكن هناك في تشاد ياعمك ) .. ضحك وقال لا هذه معدات عملية ناقصة بالمستشفي جلبتها من لندن لصالح تشاد ..
أعرف تلك الحقيبة جيدا .. فكثيرا ما أتى بها من لندن وهي مليئة بعقاقير طبية وحقن لمرضى تواصلوا معه عبر الواتساب في مهجره وطلبوها منه بعد أن عجزوا عن شرائها لارتفاع تكاليفها وفي احيان أخر لانعدامها فكان يحدد لهم مكانا للتسليم .. وبعضهم يذهب إليهم بنفسه في منازلهم وكثيرا ماكنت أرافقه في ذلك العمل وفي كثير من المرات كان يطلب مني أن استلم مبالغ من سوداني يأتون من مهحره أو أن اذهب إلى شقيقة الأستاذ نور الدين أيضا لاستلام مبالغ مالية وبعدها على أن أقوم بتسليمها لآخرين لا يستطيعون الوصول للأستاذ النور فكنت حلقة وصل لكثير من معارفه المحتاجين .. ولم أبحث عن ماهية العلاقات بينه وبين من يتبرع لهم غير أنني متاكدة أنه لا توجد علاقة رحمية وإلا وقد كان الأستاذ النور هو من قام بالتوصيل بل كان يوصيني أن لا أخبر أحدا وان يكون الأمر سرا بيننا .. والجميل الغريب في الأمر أن الأستاذ النور لا يسأل عن جهة المتلقي إطلاقا.
كنت علي علم أنه كان ينفق على نفسه في كل سفرياته داخل قارة أفريقيا ذهابا وإيابا غير أنه أوضح لي أنه قد قطع التذكرة لتشاد ذهابا فقط هذه المرة وعلل بانه سيذهب منها إلى لندن وفي ذلك فائدة حيث أنه لن يحجر بعد وصوله لندن بالإضافة إلى أنه لا يعلم كم من الزمن يمكن أن يمكث فيها .. ولكن الأقدار قضت أن يعود الا وهو داخل صندوق فيختاره الله إلى جواره وتصعد روحه الطاهرة إلى بارئها ” رحمة الله عليه ” .
بعد وصوله لتشاد كان يهاتفني كعادته ونتحدث عن الأوضاع الراهنة بالبلاد في شتى المجالات لا سيما السياسية غير أنه وفي الثلاث محادثات الأخيرة كان صوته ليس على ما يرام .. وسألته حينها بمجرد أن فتحت خط الاتصال الوارد منه (صوتك ماله كده) اجابني (نزله نزله) مازحته (نزلة وين في جدة ) لكنه لم يضحك بل أكمل ما يشعر به (وشوية حوامض بتستمر لفترة ) مازحته مجددا (بتكون كترت في الرمرمه ) ولم يضحك أيضا واستمر في وصف حالته التي كانت اقرب إلى أعراض الذبحة القلبية .. ورغم أنني شككت في ذلك إلا أنني تجاهلت الأمر ولم اقل له ذلك .. فهو الذي عودني أن أكتشف الإصابة بالأمراض من خلال الأعراض ويقول لي (اعرفي واتعلمي عشان تقدري تنقذي زول لو حصل لواحد حاجة وبعيد من الطبيب ) وربما أنني حينها استبعدت فكرة الذبحة وقلت في نفسي كيف لا يشخصها وهو دكتور وفي الحقيقة أنه كان يريد يوصل إلي معلومة إصابته بالذبحة التي صعدت بعدها روحه المعطاءة الكريمة إلى أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين .. له الرحمة والمغفرة .. إنا لله وإنا إليه راجعون