X

تجليات .. مريم المنصورة .. فكانت ” مريم الاخرى ” في رثاء كابلي !

الخرطوم _ قصة خبرية يكتبها _ عبدالباقي جبارة 

 

 

 

 

في خضم صدمة الشعب السوداني بقرارات ٢٥ اكتوبر وشعوره بالاسى وهو يرى من لا يقدرون تضحياته الجسام التي قدمها مهرا لنصرة ثورة ١٩ ديسمبر التي تنشد الحرية . السلام والعدالة .. وقبل أن يفيق  ليفاجأ باحدى قاماته الفنية والثقافية يترجل ألا وهو الفنان العملاق عبدالكريم الكابلي .. والامر الذي فاقم الحزن لم يحظ جمهوره بتشيعة أو رمقة وداع فاختار جسده بلاد الغربة مرقدا ولكن ظلت روحه تحلق في سماوات الوطن الرحيب ، ولأنه رقم صعب تجاوزه ودلالة على تغلغله في وجدان هذا الشعب الشفيف سال حبر كثيف في رثاءه كما سالت دموع غزيرة حزنا وأسى على الهرم الفني الذي انهد ، والعزاء في تناثر رفاته قطع فنية ترسم للاجيال معالم الطريق فنا راقيا وثقافة عميقة تعبر عن تاريخ تليد يحفظ لهذا الشعب مكانته بين الأمم بأنه من طينة الابداع والادب الرفيع .. 

 

 

 

 

ها هي واحدة من كنداكات بلادي تكشف عن جوانب ظهرت فيها اكثر ابداعا رغم ظهورها في ضروب ساس يسوس .. فأبدعت في اظهار مقدراتها المعرفية وفي تسلسل مموسق يكشف عن ثقافة عميقة تتسلح بها ليوم تبارز الالسن والاقلام الشفيفة التي تفيض فنا وادبا وتهدي الناس املا .. فاذا كان في العرف يقال : الوحش يقتل ثائرا فالارض تنبت ألف ثائرا .. فاهي هي ارض السودان حبلى كلما رحل عنا اريبا او اديبا ومثقفا فنحن بنو السودان نهدي الدنيا الف فنانا واديبا ومثقفة ومثقفا …. 

 

 

 

 

وها هي واحدة منهن مريم المنصورة الصادق المهدي نتترككم للتجولوا بين هذه الاسطر التي اخططها يراعها حزنا . . وكأنها بين كل دمعة ودمعة وضعت قافية ونثرا .. ولأن الحياة لا تتوقف برحيل عزيز وهي سنة الحياة  فكانت رقعة مريم هذه كأن بين كل دمعة ودمعةانبتت وردة وبين كل سطر وسطر امل في الحياة يتجدد ان نعيش وننتصر .. 

 

 

 

 

 

فالى حديقة مريم المنصورة  .. في رثاء عزيزنا الكابلي : 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم
ترحم و احتفاء بعد ان تفشى الخبر…

قيل (عبد الكريم الكابلي صوته جميل).
فقال والدي الحقاني عليه الرضوان (اي صوت في اصواته؟ فإن له عددا مذهلا من الاصوات ، و كل واحد منهم اجمل من الآخر)..
تعرفت الى تلك الاصوات المدهشة عندما كنت في الحادي عشر من عمري، طفلة في السنة الاولى من الثانوي العام،.
كنت حينها الازم امي المرأة الصنديدة، سارا الفاضل محمود، المحكوم عليها بالاعدام و هي في وضع صحي خطير في مستشفى د. احمد عبد العزيز و زوجه د. سيدة بالعمارات مصابة بجلطة رئوية انتقلت من جلطة بالساق جراء الجلوس الطويل في كرسي قاسي لساعات طويلة ابان محاكمتها البطولية كأول سياسية سودانية تقدم لمحكمة عسكرية على اثر انتفاضة يوليو 1976 الفدائية.
تعرفت حينها على تلك الاصوات و الالحان و الكلمات و المعاني.
كانت امي تحب الاستماع له باستمرار من شرايط الكاسيت التي طلبتها و ارسلت لها من كل حدب و صوب.
قدم لي اول ما قدم كسلوى و سلوان و مفضل والدتي…
ثم … و مع استماعي لاصوات و الحان و كلمات الاستاذ الفخيم…
أسأل…
و كان معروف عني كثرة الاستفسار و السؤال في طفولتي حتى قالت عني امي رحمة، جدتي لوالدي، “البتسأله مريم بت الصادق؛ منكر و نكبر في القبر ما بيسألوه تاني. بيقولوا كفاه. مريم بت الصادق سألته”…
أسأل و اسائل والدتي المعتادة على تلك السؤالات …
و من هي حرم التي تركت في الاغنية و شالوا السيدة..
و ما معنى “كباس درايز ام حبر”،
و ما معني “اللدر العلي ضهرو الخبوب و الطين”..
و ما معنى.. و ما معنى..
فكان الاستماع الى اغانيه مدخل كبير للتعرف على لغة التراث السوداني…
ثم للقيم “حبك للناس خلاني احبك تاني”
ثم للادب العربي “اراك عصي الدمع، شيمتك الصبر”..
ثم للوطنية “هبت الخرطوم في جنح الدجي ضمدت بالعزم هاتيك الجراح”، “يللا يا سعاد نعلن الجهاد ننشد الحرية”، و “يا قمر دورين، انا شفتك وين”. و للذين غادروا الوطن الحبيب “زمان الناس هداوة بال، و انت زمانك الترحال” التي طالما اعتقدت انها تحكي حال ابوي عليه الرضوان.
ثم لحب النبي “ليلة المولد يا سر الليالي والجمالِ وربيعاً فتنَ الأنفُسَ بالسحرِ الحلالِ”
و استغراق في تأمل صوفي فلسفي “ماجنٌ حطم القيود وصوفي، قضى العمر نشوةً وابتهالا، خُلقتْ طينةُ الأسى وغشتها نارُ وجدٍ فأصبحتْ صلصالا، ثم صاح القضاءُ كوني، فكانت.. طينةُ البؤس شاعراً مثّالا”
ثم اعتزاز بانوثتي “اي صوت زار بالامس خيالي طاف بالقلب و غنى للكمال. انه صوتي انا. زاده العلم سنا, انا من دنياكم احلي المنى …” و ربط بها الوطن و الوطنية.
و تثقيف سياسي رفيع فيه حديث عن نضال و تحرر الشعوب و تكوين الجسم صاحب الاهداف السامية (دول عدم الانحياز) و اغنيته الاشهر ” عندما أعزف يا قلبي الأناشيد القديمةْ، ويطل الفجرُ في قلبي على أجنحِ غيمةْ، سأغني آخر المقطع للأرض الحميمة، للظلال الزُرق في غابات كينيا و الملايو، لرفاقي في البلاد الآسيوية”
و للتعرف على نضال بلد المليون شهيد و ايقونته السيدة جميلة بوحريد امد الله في ايامها، و لتميز و فخامة لآليء البحرين الشقيقة “أغلى من لؤلؤة بضة صيدت من شط البحرين، لم تبلغ سن العشرين، و اختارت جيش التحرير “. فاصبحت اصبو ان اكون مثلها.
و للغناء بفرح و للفرح “سكر سكر” و “زينة و عاجباني”، و “شربات الفرح”..
و كثير من جميل الاغاني التي فيها من روعة المعاني و المباني و الالحان… حتى فيها ما ترجمه و غناه بلغة انجليزية رصينة.

كيف رفع هذا الانسان المُلهِم المُلهَم مستويات معارف اجيال منا في الوطن سابقة و لاحقة لجيلي… بغزير ثقافته، و متنوع ابداعه في ضروب الفن .. شعرا و نثرا، وغناء، و الحانا.. و كلمات؟
ماذا يمكننا ان نقول لنوفيه حقه علينا و قد صار معلما و استاذا لاجيال و اجيال في ضروب الادب و الثقافة و التهذيب و سليم النطق و الاناقة.
كم اثرانا و اهدانا و هدانا بمجرد ظهوره: احترام في المظهر و في المنطق،
و ادب و تهذيب يجعلك تفتخر بانك من نفس البلد،
و رازنة حضور و اناقة ملبس،
و غزارة ثقافة و عمق تناول، و سلس حديث، و جمال مخارج حروف،
اضافة لكل ذلك:
فإن الوالد الحبيب عبد الكريم الكابلي هو الفنان الذي احبه ابي و امي… فكان عشقه و احترامه ايضا من باب بر الوالدين.

طبت حياً و اعزك الله و اكرمك ميتاً يا استاذ عبد الكريم
فقد اعطيت و ما استبقيت شيئا
يا استاذنا و رمزنا الجميل و ايقونة الفن في بلادنا. و بك نعتز و نفتخر. و نشكر الله الذي حبانا بك و بكل ما حملت و نشرت من قيم للجمال و الفن و الثقافة و الادب…
فأنت علامة لهذا الشعب السوداني الجميل و النبيل… و الذي ما يزال يدهش العالم ببديع فعله في ثورة سلمية تنشد الحرية و العدالة و السلام و تفتدي تلك القيم ببسالة و شجاعة وقف العالم اجلالا لها، و وقفت الآليات العسكرية عاجزة امام زخمها و سيولها.
اليوم و قد رحلت الى دار الحق، نشهد لك بالخير، و ندعو لك ربنا الرحمن الرحيم ان يكرم وفادتك، و يعلي مقامك في الفردوس الاعلى، و يجعلك في صحبة نبينا و الصالحين، و الشهداء و الانبياء و الصديقين و حسن اولئك رفيقا.
التعازي لابنائك و بناتك و احفادك و زوجك الكريمة. و لاصهارك و اصدقائك على رأسهم د. الاسد و السفير ساتي، و كل الاسرة و الاهل..
و تعازي تمتد لكل زملائك و تلاميذك في قبيلة الفن و الفنانين، و الادباء الشعراء، و المثقفين و الوطنيين على امتداد البسيطة و داخل السودان. و لكل محبيك و معجبيك على امتداد الاجيال.
نزفك للرحمن محتفين بك، فرحين بما نشرته فينا من قيم و فضيلة، سعداء بأن كنت في حياتنا نسمة جمال و حب …
يكرمك الله كما اكرمت شعبك يا عبد الكريم.
ان الى ربك الرجعى
Abdel Karim AlKabli عبد الكريم الكابلي
#الكابلي
الصافية- 4/12/221