X

من ارشيف ” السوداني ” .. الشاعر الكبير صلاح حاج سعيد يقلب دفتر ذكرياته: مصطفي سيد أحمد مثل ابني وهذه تفاصيل معرفتي به

حوار:محاسن أحمد عبدالله
صحيفة السوداني بتاريخ ١٠أبريل٢٠٢١م

لم يكن الوصول إليه ولقاؤه أمرا صعبا بقدر صعوبة وتهيب الجلوس مع شاعر كبير في قامته الفنية التي زين بها جيد الاغنية السودانية بأجمل الأغنيات لتقليب دفتر ذكرياته العامرة بالحب والشعر والجمال ، بجانب ذكرياته المؤلمة التي فرضتها عليه ظروف الحياة والمهنة وموهبة الشعر الذي عشقه واتخذه كملاذ آمن يفرغ فيه أحاسيسه المختلفة بحلوها ومرها.

المولد والنشأة
هو من مواليد فترة الاربعينيات بمنطقة الخرطوم التي نشأ وترعرع فيها ودرس المرحلة الابتدائية في الخرطوم غرب والأهلية الوسطى ثم قانون جامعة القاهرة الفرع .
يعتبر ترتيبه الثالث بين إخوته، كان يحب لعب كرة القدم حتى أصبح مدمنا لها بحكم عشقه الدائم للمستديرة بجانب أنه قارئ نهم منذ أن تفتحت عيناه للدنيا حتى الآن ، إلا أن الأطباء نصحوه بالتقليل من ذلك بعد أن أجريت له عمليات في العين، وقرروا له نظارة حتى لا يرهق عينيه بالقراءة الكثيرة.

تفاصيل الزيارة إلى منزله
(السوداني) التقت به وزوجته الفاضلة (عواطف عثمان) في حوار مختلف بمنزلهم العامر بمنطقة الخرطوم (٣) الذي شهد أجمل سنوات حياتهما تقاسما حلوها ومرها وكانا أكثر صمودا في وجه عاتيات الريح التي كان يمكن أن تقتلع جذور ذلك الوصل النبيل لولا قدرتهما على التحدي والحب ليكونوا أجمل زوجين.

الشاعر الجميل مدني النخلي كان برفقة (السوداني) حكم ما تربطه من علاقة صداقة مميزة بالشاعر صلاح حاج سعيد بجانب العلاقة الفنية التي جمعت بينهما.

في الاستقبال كانت الزوجة عواطف حاضرة ترحيبا وهي تخطو نحونا بخطوات مثقلة ومتعبة بسبب مرض (الغضروف) الذي قالت إنها ظلت تعاني منه زمنا طويلا وتسبب في الحد من حركتها بعض الشيء.

(عواطف) الزوجة الصامدة..
تعتبر عواطف زوجة صلاح حاج سعيد من النساء المستنيرات اللائي حملن شعلة الوعي في وقت كان فيه الخناق مضيقا على المرأة، بجانب عملها بالاتحاد النسائي وقتها.
ولدت عواطف وترعرت بمنطقة الخرطوم(3) ذلك الحي العريق وسط عدد من الأشقاء وكان ترتيبها الثالثة، فيما درست في سستر إسكول وسان فرانسيس. وظلت رفيقة وفية للشاعر صلاح حاج سعيد ولم تفارقه حتى الآن.
رغم الرهق والمرض الذي بدا واضحا في تفاصيل وجهها أثناء الزيارة، إلا أنه وجهها تزين بابتسامة صافية هادئة وعيناها تطل منهما نظرات براقة متفائلة تتطلع لواقع أفضل لمستقبل السودان، وذلك عندما تجاذب الجميع أطراف الحديث عن الحياة والوضع الذي تمر به البلاد.

بداية الحكاية..
استمر حديثنا دقائق عدة قبل أن تطلب منا عواطف الولوج للداخل حيث ينتظرنا الشاعر صلاح حاج سعيد بإحدى الصالات الملحقة بالمنزل.
وجدناه مرتبا مهندما وهو يرتدي جلبابا ابيضا، استقبل (السوداني) هاشا باشا وكان هادئا مبتسما كالعادة، قبل أن يطالب بالجلوس، لتكون بداية الحوار..

السؤال الاول
لم يكن من الممكن بداية حوار مع الشاعر الكبير قبل معرفة تفاصيل حالته الصحية وذلك بعد انتشار أخبار مرضه الشديد، بجانب ذكرياته منذ طفولته حتى شبابه وقصة زواجه الذي سردت فيه رفيقة دربه (عواطف) كثير من التفاصيل من رفض أسرتها له حتى زواجها منه، وإنجابهم عددا من الأبناء ، وتفاصيل عمله كمستشار قانوني وإحالته للصالح العام، وعلاقته برجل الأعمال المعروف الشاعر صلاح إدريس والاعتقالات التي تعرض لها وتجربته مع الشعر وقصص مناسبات بعض الأغنيات التي كتبها وعلاقته مع الفنانين وتحديدا الثنائية التي جمعته مع الفنان الراحل مصطفي سيد أحمد واحتوائه له والكيفية التي يختار بها القصائد وعلاقة أسرة مصطفى المتميزة في (ود سلفاب) بأسرة صلاح حاج سعيد ووقفتهم معه في زواجه والكيفية حتى تلقى صلاح خبر وفاة (أبو السيد) الذي كان بمثابة صدمة له والكثير..

الحالة الصحية..
ابتدر الشاعر صلاح حاج سعيد حديثه بصوت خافت وهادئ عن وضعه الصحي قائلا: (الحمد لله وضعي الصحي بخير، أجريت سابقا عمليتين فتاك وعمليتين للعيون وخلال فترة مرضي الماضية سافرت وزوجتي الى ماليزيا بدعوة من ابني من أجل مقابلة الأطباء والعلاج وكانت رحلة ناجحة والآن أنا بخير استخدم عددا من الأدوية ووضعي الصحي مستقر.)
فيما وصفته زوجته عواطف بأنه هادئ وصبور جدا لا يشتكي من المرض أبدا وكثيرا ما يلاحظون هم أعراض المرض عليه ثم يسألونه مما يعاني ولكنه بطبعه لا يشتكي ولا يحب أن يقلق من حوله.

فيما أكد صلاح حاج سعيد أنه يعيش هذه الفترة حالة حزن بسبب وفاة صديقه ورفيق دربه الموسيقار والملحن محمد سراج الذي انتقل للرفيق الأعلى الفترة الماضية، حيث جمعت بينهما علاقة صداقة قوية ومميزة وكانا خلال الفترة الأخيرة على تواصل دائم لا يفترقان.

علاقته بالراحل مصطفى سيد أحمد
بداية الحوار كان الحرص على معرفة تفاصيل العلاقة الفنية والأسرية الوطيدة التي جمعت بينه والفنان الراحل مصطفى سيد أحمد والتي تحدث عنها بوفاء شديد قائلا:(مصطفى رحمة الله عليه لم يكن مجرد فنان تغني من أشعاري فقط ، بل كان مثل ولدي كنت أحبه جدا ومعجب به كمغن شدني بصوته وطريقة أدائه، بدأت علاقتي به في العام ١٩٧٩ وقتها كان طالبا في معهد تدريب المعلمين ولفتتني لصوته زوجتي عواطف في إحدى الليالي التي غنى فيها).
هنا التقطت زوجته عواطف اطراف الحديث قائلة:(أول مرة استمع فيها الى صوت مصطفى كان خلال حفل شدني صوته العذب وكان يجلس بجواري في المسرح الفنان محمد ميرغني فقلت له :(من وين الولد ده يا ميرغني؟) فأجابني :(من بورتسودان) بالفعل وقتها كان مصطفى قادما من مدينة بورتسودان، فقلت لصلاح زوجي:(الزول ده ما ساهل زول فنان ما تخليه، صوته ما بتسمعوا بأضناك بتسمعوا جوه قلبك)، واضافت: (منذ ذلك الوقت بدأت المعرفة وتعمقت العلاقة وكان وقتها مصطفى يسكن الديم بالخرطوم، وأصبح كل مرة يكون قادما من الديم يزورنا هنا في منزلنا بالخرطوم (٣) وتعمقت العلاقة بيننا، وتبناه زوجي صلاح وأصبح ابننا وتوطدت العلاقة بيننا وأسرته فجاء بوالدته ست الجيل وشقيقته مريم وعبلة لزيارتنا في منزلنا) ،مضيفة (كان مصطفى يحب طبخي جدا وكنت أعرف مزاجه في الأكل وكان لا يحب طبيخ البامية لوجود البذور فيها حيث كان يعاني من مشاكل في الكلى وكان صلاح يطلب مني طبخ وجبات معينة يحبها مصطفى ).

تفاصيل علاقته بعواطف وزواجه منها..
فيما تحدثت عواطف عن بداية معرفتها وعلاقتها بالشاعر صلاح حاج سعيد والعراقيل التي وقفت في طريقهما حتى توجت تلك العلاقة بالزواج، قائلة:(عندما تعرفت على صلاح كان وقتها رئيس اتحاد الشباب وعضو اللجنة التنفيذية للخدمات الاجتماعية بالخرطوم، وكنت وقتها أقوم بكتابة تقارير الاجتماعات التي يشارك فيها وكان دوما يقوم بتوجيهي إذا أخطأت.. بعدها بدأت المعرفة وتطورت وكانت علاقة مبنية على الاحترام والمودة الحمدلله حتى الآن مستمرة على ذات النهج.

مواصلة:(في العام ١٩٧٠ طلبني للزواج إلا أن أسرتي رفضت لأنه وقتها كان ما يزال طالبا بكلية الحقوق وكانت فكرة الخطوبة مرفوضة بالنسبة لهم ، إلا أنني كنت صامدة ووقفت معه وقفة قوية، وعندما أحست أسرتي بذلك، ووافقوا ولكن بعد السؤال عنه، بعدها علموا بأنه شخص ليس عليه غبار ومحترم وتم الزواج ..
أطلقت عواطف ضحكة قصيرة وقالت :(بس مشكلته فقير لكن الحمدلله غني بأخلاقه واحترامه وأدبه ووفائه)..

معاناة الأسرة والاعتقالات
من جانبه أوضح صلاح:(زوجتي عواطف لها الفضل الكبير في مسيرتي فهي أعلنت وقفتها معي وظلت وفية لي طوال تلك السنوات التي تعرضت فيها لمشاكل كثيرة من بينها الاعتقالات خلال فترة حكم الرئيس نميري وكان أمنه خطر جدا وقتها ولكن كانوا يتعاملون معنا بأخلاق لم يكن هناك تعذيب)..
واصلت عواطف في حديث زوجها صلاح: (لقد عانيت كثيرا خلال فترة اعتقالاته لأنه وقتها رجال الأمن كانوا يقتحمون منزلنا ليلا كل يوم، ولأنني تربية في أسرة ختمية محافظة جدا، لا تعرف غير السيد علي ولا يعرفون معنى الاعتقال، فكانت خالتي التي قامت بتربيتي دوما تسألني :(انتي يا عواطف العساكر ديل كل يوم جايين بيتنا لي شنو؟) كنت أخاف أن أقول لها أنهم يأتون بسبب زوجي صلاح وكنت أجيبها بأنهم يأتون بسبب عملي في الاتحاد النسائي، فكان ردها لي :(يا بتي ماتقعدي في البيت وربي أولادك).. إلا أنه مع مرور الوقت وتكرار الأمر عرفوا الحقيقة وأصبح الأمر بالنسبة لهم عادي )..
صلاح حاج سعيد واصل الحديث بعد زوجته وقال:(كان إعتقالي الاول لمدة عام والثاني لمدة تسعة أشهر وطول فترة اعتقالي ظلت زوجتي عواطف تزورني في سجن كوبر في المعتقل السياسي وكان التعامل جميلا ويسمح لنا بإدخال كافة احتياجاتنا ولم تكن الزيارة ممنوعة).

معاناة الإحالة للصالح العام..
واصل الشاعر صلاح حاج سعيد ما ورد من حديث بالكشف عن أسباب إحالته للصالح العام وقتها قائلاً: (تمت إحالتي للصالح العام في عهد نميري وكنت وقتها مستشاراً قانونياً بصندوق التأمينات الاجتماعية وقضيت بعدها عشر سنوات بدون عمل عانيت من خلالها ما عانيت إلا أن الأسرة دعمتني وساندتني مرة أخرى).
واصلت عواطف في حديث زوجها: (عندما تمت إحالته للصالح العام ذبحنا الذبائح ووزعنا المشروبات الباردة لأنه عندما تمت إحالته كان نظيفا غير فاسد إلا أنه ظل عاطلا عن العمل لسنوات فسانده إخوتي وعاش معنا في المنزل بدون عمل وكان يذهب ويقدم للعمل في مؤسسة حكومية يتم رفض طلبه وكان يقول لي إنه أصبحت عالة علينا، لكني كنت أقول له أنت زوجي في الحلوة والمرة، مرت الأيام بعدها عمل كمفتش في صندوق التأمينات وكان بعضهم يتلاعب بالمواد التموينية فسارع بتقديم استقالته رافضاً ذلك الوضع الذي قال إنه يدنّس الأخلاق، بعدها عمل في (ساريا) لفترة من الوقت.

تميز الشاعر صلاح حاج سعيد بالرومانسية والصدق فيما يكتبه وأجمل ماميزه أنه حصر أغلب شعره داخل بيته -حسب مداخلة الشاعر مدني النخلي-
وتأكيداً لذلك أوضح صلاح بأنه كتب أغنية (نور بيتنا) التي لحنها الموسيقار بشير عباس وقامت بإدائها البلابل في ابنه الكبير جمال عندما تمت ولادته.
في الوقت الذي أكدت فيه زوجته عواطف بأن كل القصائد التي كتبها زوجها صلاح في شخصها هي وذلك بقولها وهي تطلق ضحكة قصيرة: ( بدون غرور كل القصائد كتبها فيني، ولا يكون غاشيني يا ربي؟) فيما أشارت إلى أنه يأخذ رأيها في كل قصيدة يقوم بكتابتها.

علاقته بالفنان الراحل مصطفى سيد أحمد..
تحدث صلاح حاج سعيد عن علاقته بالفنان الراحل مصطفى سيد أحمد : (كانت العلاقة الأسرية قوية نتبادل من خلالها الزيارات وأذكر وقتها حضرنا مراسم زواج مصطفى التي بدأت من منطقته بودسلفاب بالجزيرة إلى الخرطوم الذي شهدته إحدى أنديتها، فيما جمع بيني وبينه عدد من الأغنيات من بينها (الشجن الأليم، الحزن النبيل، المسافة، عدى فات، قمر الزمان وأخريات.)
وأضافت عواطف: (كنت أكتب الشعر العامي وأطلع مصطفى عليه لأخذ رأيه فيه إلا أن رده لي كان (لكن صلاح بكتب درر) وهو دليل علي إيمانه واقتناعه التام بما يكتبه صلاح وكان يجمع بينهما حب واحترام كبير.
حكى صلاح عن حرص الراحل مصطفى سيد أحمد عندما كان في الدوحة بالاطلاع على القصائد التي كان يرسلها له من السودان واهتمامه بها دون سائر القصائد الأخرى التي تصله بالبريد من آخرين، مواصلاً (أذكر أنني أرسلت له أغنية (عدى فات) وهو في الدوحة عندما اطلع عليها الراحل مصطفى قام بالاتصال بصديقه مصطفى عبدالله قائلاً له (صلاح حاج سعيد نعاني في قصيدة اسمها (عدى فات) وهي بمثابة مرثية لي).. بالفعل كانت القصيدة تحمل تفاصيل مختلفة مليئة بالحزن والشجن، لحنها مصطفى في الدوحة كان اللحن جيداً).
فيما أكد الشاعر مدني النخلي خلال مداخلته في الحوار:(كل الغناء الشجني مصطفى سيد احمد أعطاه حقه إلا أغنية حاجة فيك ووضاحة و واقف براك والحزن النبيل لم يضف لها فهو أضاف غناء جديد وأفكار جديدة، مضيفا (أما بالنسبة لأغنية (واقف براك والهم عصف) اندهش صلاح عندما استمع إليها لأول مرة.
حول الأغنية من جانبها قالت عواطف: (أقام الراحل مصطفى سيد أحمد جلسات استماع كثيرة في كل ركن من أركان منزلنا هذا وكانت لديه صديقة اسمها فايزة عندما يبدأ مصطفى الغناء في جلسة الاستماع تضع كرسيها في المقدمة وتقول له :(أستاذ لو سمحت أغنية واقف براك والهم عصف) كانت مغرمة بتلك الأغنية بصورة جنونية.

التزام الفنان تجاه قضايا الناس..
تجربة الفنان الراحل مصطفى سيد احمد إضافة للغناء السوداني أثبت من خلالها مقدرة والتزام الفنان تجاه قضايا وهموم الناس وهذا كان واضحاً في منتوجه الفني المنتقى، ما يحدث الآن من فوضى في الساحة الفنية علقت عليه عواطف:(هناك طفح حدث في الساحة الفنية، أسمع دوما أصوات حلوة وجميلة لكني لم أجد مفردة هادفة، لديك مثلا الشاعر إسحق الحلنقي متمكن في نظم القوافي لكن مفرداته أصبحت عادية، نحن تعودنا على العمق والفكرة والغناء الهادف.)

فاجعة وفاة مصطفى سيد أحمد
في الختام عاد الشاعر صلاح حاج سعيد بذاكرته للوراء قليلاً حيث تأريخ وفاة الفنان مصطفى سيد أحمد التي وصفها بالفاجعة الأليمة وذلك للعلاقة المتينة التي كانت تربط بينهما، وقال إنه عندما تلقى خبر وصول جثمانه بمطار الخرطوم خرج من منزله مندفعاً معبأ بالحزن دون علم زوجته وأبنائه ولم يجد نفسه إلا وهو في ودسلفاب مسقط رأس الفنان مصطفى سيد أحمد وكان وقتها منهاراً غير مستوعب لما حدث من فراق لرفيق دربه وعمره وأنه الذي لم يلده ، فكان رده لزوجته عواطف وأبنائه : (معقول ما أكون حاضر جثمان مصطفى ولدي وهو بيتوسد الثرى).
اختتم صلاح حديثه :(يموت الشاعر والملحن وتعيش الكلمة،مصطفى لم يمت بل ظل خالداً بأعماله وأخلاقه).