X

الجميل الفاضل .. يكتب .. ويسألونك عن “الثورة”؟ (١-٣)

ان من منافع ضارة البرهان الانقلابية، عودة الأمانة الثورية بالكامل، إلى أهلها في الشارع، كما كان العهد بها في خواتيم العام (٢٠١٨).
هذا الشارع الذي انتزع اليوم اعترافا دوليا اضافيا، صدع به الاسبوع الماضي عبر “قناة الحرة” رئيس البعثة الاممية المتكاملة فولكر بيرتس
الذي قال: (ان المتظاهرين، و المواكب، ولجان المقاومة، كانوا عناصر مهمة لدفع بقية الأطراف إلى قبول التفاوض والمحادثات. مردفا بالقول: إذا لم تكن هناك مقاومة للانقلاب لما قامت السلطات بقبول المحادثات والتفاوض).
واعرب بيرتس عن اعتقاده أن لجان المقاومة لعبت ولا تزال تلعب دورا مهما، وأن الأحزاب، والعسكر، والقوى الفاعلة، قد أدركوا مؤخرا أنه من دون الشباب لا يوجد حل في هذه البلاد.
هذه الشهادة الأممية القيمة، من فوائد انقلاب البرهان الذي كشفت المواجهات خلال الاشهر الثمانية المنصرمة، بجلاء لا لبس فيه، عن تشبع هذا الجيل السوداني المقاوم، بذات سمات الشخصية السودانية، التي تميزت بها على مر التاريخ والعصور، فقد تجلت في هذا الجيل خصائص وصفات المعدن السوداني النفيس كانصع مايكون.
انه جيل تقلب بين الاصلاب، وتخلق في الارحام، الي ان بلغ النصاب، فخرج للناس والعالمين، في أبهى صورة تسر الناظرين، الهمت العرب والعجم وغير الناطقين.
انظر كيف اضحي هؤلاء الثوار مضربا للمثال من قبل.. حين قال الرئيس الفرنسي امانويل ماكرون لذوي السترات الصفراء في باريس في العام (٢٠١٩): (انظروا إلى الثورة السودانية وسِلميّتها، وقد شارَك فيها أكثر من (5) ملايين معتصم، ولكن لم نر عنفاً أو مُمارسات غير أخلاقية، ويجب أن نعي جميعاً الدرس بأن مؤسسات الدولة ملكٌ للشعب).
بل أن وزير خارجيته السابق جان إيف لودريان عزّز قول ماكرون في ذلك الوقت بقوله: (لقد كان تصميمكم مدهشاً وأنتم تسعون من أجل الحرية وتتفادون كل مُنزلقات العنف, لقد تابعنا برعُب وغضب استخدام العنف ضد الثوار, وتابعنا بإعجاب تحلِّيكم بالنضج والمسئولية والهدوء في ظرفِ قمعٍ عنيف).
ولعل من اصدق تلك الشهادات شهادة سفير دولة السويد بالخرطوم انذاك هانس هينريك ليندكويست الذي قال: (الثورة السودانية تجربة فريدة ومن الصعب أن نقارنها بما حدث في أي مكان آخر).
وتبقى ثورة ديسمبر المجيدة تجربة فريدة، لا يمكن مقارنتها باي حراك ثوري جري في هذه المنطقة من المحيط الي الخليج، انتج تغييرا محدود النتيجة والاثر، كحال ما حدث في موجة ما عرف بالربيع العربي في العام (٢٠١١)، أو حتي مقارنتها باي انتفاضة شعبية، اوهبة ثورية في السودان، احدثت تغييرا سطحيا اقتصر علي استبدال الوجوه، وتبادل المواقع، ولم يطال هو بالطبع أبنية وقواعد، ونظم الدولة السودانية برمتها.
فلنحو اربعة أعوام، بصيفها وخريفها وشتائها، ظلت تشهد هذه البلاد، وبلا انقطاع يذكر، ما يشبه المعجزة، يحدث بشكل شبه يومي.
انها معجزة يكتب فصولها على الارض بلا كلل، ودون ملل، هذا الجيل الملحمي الشاب، بدأب شديد، وبتفاني منقطع النظير.
جيل ابتدع “لجان المقاومة” تنظيما شبكيا واسعا، يتميز بدرجة عالية من الاستقلالية والمرونة، انتظم كافة ارجاء البلاد من أقصاها الي ادناها.. تكاد لا تخلو منه مدينة أو قرية او حي.
تنظيم وقع بالأحرف الأولى، ميثاقا لسلطة الشعب.. يعتبر أول وثيقة في تاريخنا تنبع مباشرة من قاعدة جماهيرية شعبية، التقطت القفاز، بقبولها تحدي التصدي لمهمة كبيرة وخطيرة، درجت على الاتيان بها في العادة منظمات المجتمع المدني الحديث، من أحزاب ونقابات وخلافه.
ان هذا التجاوز التاريخي الجريء في تصوري هو ما دفع فولكر بيرتس للاعتراف بالدور العظيم الذي لعبته لجان المقاومة في أحكام قبضتها علي مسارات الأحداث بالبلاد.
بل ان المبعوث الأممي قطع بأن الأحزاب، وجنرالات الجيش، وكافة القوى الفاعلة الأخرى، قد ادركوا مؤخرا انه لا حل دون هؤلاء الشباب.
المهم فإن انتزاع لجان المقاومة لمثل هذا الإعتراف نادر الحدوث من ممثل لأمين المنظمة الدولية المعنية برعاية مصالح حكومات العالم، لا شعوبه بالطبع.. يعد اعترافا كهذا، بحد ذاته حدثا فريدا في نوعه.
وبمثله ايضا اعترفت مساعدة وزير الخارجية الأمريكي موللي فيي للجان المقاومة بأنها قد عملت في عدة مناطق من العالم بيد انها لم تجد تصميما وعزما كالذي وجدته لدي شباب السودان الثائر.
وبطبيعة الحال فإن ثورة نبتت في تربة العالم الثالث الفقير، ومن أرض الكوارث المتوطنة “أفريقيا”، لا ينبغي لها أن تخرج الا على وقع صراخ الامعاوات الخاوية فقط، وفق ظن غالب قادة العالم الأول.
ولذا فقد بدا مدهشا لهؤلاء القادة الذين تباروا في مدح الثورة السودانية.. أن شعبا من القارة السمراء ما ثار على حكامه الا لاستعادة كبرياء وطنه الجريح، وكرامته الانسانية المستباحة.
شعب بذل دماء وأرواح أبنائه رخيصة، من أجل قيم الحرية، والسلام، والعدالة، ومدنية الحكم، لا أكثر ولا أقل.