X

رسالة في بريد مناوي وجبريل وحجر (2) الترميز التضليلي في حركات دارفور وتهميش المهمشين

الخرطوم – عبدالرحمن العاجب

إن الآلام العظيمة تبني الأمم العظيمة إذا وعت وتعلمت، وأن نار المحنة لا تحرقها وإنما تساعد على نضوجها، وأن الصدمة لا تحطمها ولكنها تكسر أغلالها وتحررها، ومن وسط الظلام الكثيف ينبثق شعاع الأمل.. فى التاسع من يونيو عام 1967م وبعد أيام قليلة على النكسة وسقوط سيناء، ألقى الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر خطابا قوياً ذكر فيه ما ورد أعلاه في مقدمة المقال وأعلن فيه التنحى عن رئاسة الجمهورية، لكن الشعب خرج فى مظاهرات عارمة ملأت شوارع القاهرة، تطالبه بعدم التنحى وتصيح (هنحارب).

ولكن شتان ما بين ذلك القائد العظيم وقادة حركات الكفاح المسلح الدارفورية (مناوي – جبريل – حجر) الذين عادوا من منتصف الطريق وضربوا بأشواق وطموحات وتطلعات شعب دارفور والنازحين واللاجئين عرض الحائط، وفشلوا في تحقيقها، وحولوا المكاسب العامة إلى خاصة، وحولوا مشروع التحرير العريض والسودان الجديد ومشروع الهامش العريض والعدالة الاجتماعية والمساواة، حولوا تلك المشاريع العامة إلى مشاريع خاصة بأسر محددة داخل هذه الحركات.. ولو عاد بنا الزمن إلى الوراء وطلب من مقاتلي وجماهير تلك الحركات بان تهتف وتردد الشعارات والأدبيات التي كان يرددها المقاتلون والجماهير في الميدان والمدن مثل (جيش التحرير املنا) (وجيش العدل املنا) (وكل القوة الخرطوم جوة) (وحنحارب حنحارب) فأنك لن تجد من يردد معك هذه الأدبيات والشعارات لأنها ذهبت مع قادتها إلى مذبلة التاريخ غير مأسوفا عليهم.

وجد المقال السابق الذي جاء بعنوان (نعم للزغاوة.. ولا للزغونة.. ولا للتمكين القبلي) صدى واسع وتفاعل كبير لأنه تناول المسكوت عنه، وزلزل الأرض تحت أقدام بعض المتهيمنين والاقصائيين، وفي ذات الوقت وجد إشادة وتحفظ من بعض أصدقائي وزملائي من أبناء الزغاوة ومن بين هؤلاء الأصدقاء الدكتور حسن تابت الرجل المثقف العضوي المتجاوز للانتماء البسيط إلى رحاب الانتماء القومي والوطني وربما يكون اكتسب هذا من خلال انتمائه لمدرسة فكرية محترمة، فيما لا يختلف موقف حسن تابت من موقف أستاذي وصديقي محمد علي إسحاق (الرائع).

وبالنسبة لحسن تابت فأنه يرى أنني أخفقت عندما عممت الأمر على قبيلة الزغاوة، مؤكداً أن الذين تحدثت عنهم وتناولتهم في المقال الأول وهو يقصد (مناوي وجبريل وحجر) لا يمثلون الزغاوة وإنما يمثلون أنفسهم وربما أسرهم وأتباعهم ومصالحهم الشخصية.. وفي هذا الشأن أقول للصديق حسن أنني عندما ذكرت قبيلة الزغاوة في المقال ذكرت الكل وأردت الجزء، وربط الأمر باستغلال بعض أبناء الزعاوة الانتهازيين لرأس المال الرمزي للقبيلة من أجل تحقيق مكاسب شخصية.

وعندما قلت نعم للزغاوة قصدت نعم بهم في المواطنة المتساوية التي تقوم على الحقوق والواجبات وأن يكونوا مثلهم ومثل مكونات الشعب السوداني الاجتماعية الأخرى، وعندما قلت لا للزغونة قصدت لا لهيمنة الزغاوة على كل المكاسب العامة وتجييرها لمصلحتهم الخاصة وإقصاء جميع مكونات دارفور من مكاسب واستحقاقات إتفاقية جوبا للسلام، وهذا هو ما قصدته في العنوان.

ومابين هذا وذاك تبقى الحقيقة المرة مثل مرارة الحنظل هي أن هناك بعض أبناء الزغاوة ظلوا على الدوام يقوموا باستغلال رأس المال الرمزي للقبيلة لتحقيق مكاسب شخصية، وما يؤكد ذلك هو أن مجلس شورى الزغاوة هو الجسم الذي يقوم برسم وهندسة وتخطيط وتنفيذ كل ما حدث، وبحسب بعض المصادر فإن هذا المجلس هو الذي شكل ضغوطات وراي عام على مناوي وأجبره على إبعاد القيادي بالحركة أبو عبيدة الخليفة التعايشي من منصب وزير المعادن وتعيين إبن أسرته الصغيرة محمد بشير وزيرا للمعادن.

وذات المجلس هو الذي خطط بعد إتفاقية جوبا للسلام بشكل مباشر إلى تعيين الطاهر حجر في مجلس السيادة الإنتقالي، وجبريل إبراهيم في وزارة المالية، وعبدالله يحي في وزارة التنمية العمرانية والطرق والجسور والهادي أبو ضفائر أمينا عاماً لصندوق الإسكان والتعمير، ومحمد بشير في وزارة المعادن، ومناوي حاكماً لإقليم دارفور وعبدالعزيز مرسال وزيرا للمالية بحكومة إقليم دارفور، كما أنه خطط لتعيين عدد كبير من أبناء الزغاوة في وظائف مهمة سنتناولها بالتفصيل في مقال قادم.

هذا المجلس يمتلك مكر ودهاء وذكاء خارق وخيال سياسي واسع، وما يؤكد ذلك أنه فكر في إمتلاك أهم أدوات السلطة والسيطرة عليها وهي الإقتصاد والقوة العسكرية (الجيش) ونجح في السيطرة على القطاع الاقتصادي عندما قام بتعيين جبريل إبراهيم وزيرا للمالية والتخطيط الاقتصادي، وتعيين محمد بشير وزيرا للمعادن ورئيسا لقطاع المعادن في السودان، وفي نفس الوقت تعيين سليمان صندل نائباً لرئيس اللجنة العليا للترتيبات الأمنية وهي اللجنة المسئولة من إختيار الضباط الذين سيتم دمجهم في المؤسسات العسكرية والأمنية في إطار معالجة الاختلالات الموجودة في هذه المؤسسات، ويؤكد الواقع أن كل او معظم الضباط الذين سيتم تعيينهم ودمجهم في المؤسسات العسكرية والأمنية سيكونوا من أبناء قبيلة الزغاوة، وفي حال نجح المجلس في تنفيذ هذه الخطة بنجاح فلم يتبقى له إلا إعلان قيام الدولة.

ولكن عندما فكر مجلس الشورى في تنفيذ خططه للهيمنة والإقصاء تناسى تماماً أن سر المعبد سينكشف للجميع وسيعرف الشعب السوداني الحقائق، وحينها سينهار المعبد علي رؤوس هؤلاء الجلابة الجدد، ووقتها إذا بدأت المعركة بين الحق والباطل سنردد المقولة الشعبية الشهيرة (البقابلك متحزم قابلو تليس) والتليس في لغة دارفور الشعبية هو الشخص العريان.

وبالنظر إلى خطاب التهميش والمظالم التاريخية الذي اعتمدت عليه حركات الكفاح المسلح الدارفورية فاننا نجد أن الدلالة التاريخية لمصطلح التهميش في الخطاب السياسي السوداني تعود إلى كتابات ما أطلق عليه إسم مدرسة التبعية التي يمكن اعتبارها محاولة لتطوير او تجديد الماركسية، وأبرز روادها الدكتور سمير أمين الذي استخدم مصطلح المركز والأطراف او الهامش، وقد ساهم في شيوع استخدامه في الخطاب السياسي السوداني بصيغ متعددة، ومن الذين ساهموا في تطوير هذه الاطروحة الدكتور أبكر أدم إسماعيل من خلال كتابه جدلية الهامش والمركز، وتبنت عدد من الأحزاب أطروحة الهامش والمركز بينها حزب المؤتمر السوداني والحركة الشعبية لتحرير السودان وحركات الكفاح المسلح الدارفورية.

ومن بين َ الحركات التي تبنت خطاب التهميش والمظالم التاريخية بجانب حركة تحرير السودان هي حركة العدل والمساواة السودانية التي تأسست من خلال بيان صحفي أصدره رئيسها ومؤسسها الراحل، الدكتور خليل إبراهيم، في هولندا، وقتها أعلنت حركة العدل والمساواة عن ميلادها في عام 2000م تقريباً، وفي مدينة (فلوتو) الألمانية في الثاني من فبراير من العام 2002 عُقد المؤتمر الأوّل للحركة.

في ذات العام أصدرت الحركة ميثاقاً حدّد أهدافها المتمثّلة في إشاعة العدل والمساواة في المجتمع السوداني، فضلاً عن إدخال إصلاحات في تركيبة الحكم في السودان، وإحداث تنمية متوازنة وتوفير الخدمات الأساسية لكل السودانيين.. وبعد مرور عشرة أعوام على تأسيسها فقدت الحركة رئيسها الدكتور خليل إبراهيم الذي قتل قبل نحو عشرة أعوام تقريباً بمحليّة (ودبندة) بشمال كردفان، حينما كانت الحركة في طريقها لمحاولة أخرى لإسقاط النظام في الخرطوم، مثلما فعلت في مايو 2008م.

وبعد مقتل زعيم ومؤسس الحركة صاحب الكاريزما وزعيم المهمشين الدكتور خليل إبراهيم وسط مقاتلي حركته، عقدت العدل والمساواة مؤتمراً استثنائياً، واختارت شقيقه؛ الدكتور جبريل إبراهيم، رئيساً، وبموت خليل مات مشروع الهامش واشواق واحلام المهمشين، بعد أن سار جبريل وبعض منسوبي الحركة في طريق مخالف للطريق الذي كان يسلكه شقيقه خليل والشهداء الذين قدموا أرواحهم رخيصة من أجل تحقيق اشواق وأحلام وطموحات أهل الهامش السوداني وليس الدارفوري وفي مقدمتهم الشهيد جمالي حسن جلال الدين.

وبالنسبة لميكانيزم الترميز التضليلي، الذي تمارسه حركات الكفاح المسلح الدارفورية بقيادة (مناوي وجبريل وحجر) والذي هو في الواقع عمليَة إستيعاب بعض الزعماء وبعض الأفراد المتفوّقين من قبائل أخرى في الإقليم وإشراكهم في بعض المواقع في الحركة او السلطة وتسليط الضوء عليهم لإعطاء انطباع مزيّف عن المشاركة في مقابل منحهم امتيازات فرديَّة وأسرية وتغييب القاعدة الاجتماعيَّة – الثقافيَّة لإعطاء انطباع بالمشاركة واخفاء حقيقة التهميش لتلك المجموعات الاجتماعية.

ونماذج الترميز التضليلي في حركات الكفاح المسلح كثيرة ويمكن أن نذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر، َفي حركة تحرير السودان بقيادة مناوي هناك نماذج للترميز التضليلي لبعض القيادات أمثال أبو عبيدة الخليفة وصديقنا الدكتور مصطفى الجميل ومحمود كورينا ومولانا عيسى موسى وآخرون، وفي حركة العدل والمساواة هناك نماذج للترميز التضليلي لبعض القيادات أمثال مولانا أحمد أدم بخيت والطاهر الفكي وجبريل أدم بلال وآخرون، وفي تجمع قوى تحرير السودان هناك نماذج لترميز تضليلي لبعض القيادات أمثال الدكتور إبراهيم زريبة ومحمد علي كلاي الذي غادر الحركة مغاضبا بسبب التهميش والتأمر وغيرهم من أبناء المجموعات الإجتماعية الأخرى، وفي حكومة إقليم دارفور قام مناوي بتعيين الدكتورة توحيدة عبدالرحمن يوسف أمينا عاما لحكومة إقليم دارفور، ومحمد عيسى عليو نائباً له كترميز تضليلي.

وكل الذي نريده من المرمز بهم تضليليا، ونعلم ان بعضهم أصحاب مشاريع حقيقية ومن مؤسسي هذه الحركات، نريدهم ان يقفوا ضد عمليات التمكين القبلي والهيمنة والإقصاء التي يمارسها الجلابة الجدد داخل هذه الحركات ولا نناشدهم بالخروج منها بل نطالبهم بتصحيح المسار حتى لا ينهار الجدار.