X

الخرطوم .. فاجعة رابعة النهار .. حرب الجنرالين وسقوط الأخلاق !

 

قصة خبرية : عبدالباقي جبارة

 

الخرطوم العاصمة السودانية تتعدد اسماءها كما تتعدد الأحداث التي شهدتها في حقب مختلفة ، العاصمة المثلثة وترجع التسمية لإعتبار موقعها الجغرافي في ملتقى النيلين أو ما يسمى “بمقرن النيلين” النيل الابيض الذي ينحدر من بحيرة فوكتوريا بيوغندا والنيل الازرق الذي ينحدر من بحيرة تانا باثيوبيا ليشكلان نهر النيل العظيم ويفصلان بين المدن الثلاث الخرطوم ، الخرطوم بحري وأم درمان ويردد معها الفنان السوداني الراحل سيد خليفة ” يا الخرطوم يا العندي جمالك جنة رضوان ما في مثالك ” وكذلك يقول : ولا الدنيا بما فيها تساوي نظرة من مقرن النيلين .. ويتكرر المشهد في مدينة الحديد والنار عطبرة حين يلتقي نهر عطبرة بولاية نهر النيل ولكنه إلتقاء خجول وهو نهر موسمي يفيض في فصل الخريف وينحسر صيفا ولا يكترث له نهر النيل العظيم المشبع بتفرعاته الكثيرة ليواصل مسيره حتى يعانق البحر الابيض المتوسط ويفرد جناحين يشكلان دلتا مصر العظيمة كأنه اراد ليصفق بنهاية الرحلة الطويلة التي امتدت من ادغال افريقيا وحتى مصر العروبة بعد أن تجاوز تفرعاته في السودان كشرايين تغذي ارض المليون ميل مربع ، ويطلق على الخرطوم كرش الفيل وتأتي التسمية لأن الشكل الجغرافي للخرطوم يشبه لحد كبير خرطوم الفيل وبما ان كرش الفيل كبيرة كذلك الخرطوم تجمع كل اهل السودان باثنياتهم المختلفة عكس بقية الولايات حيث اشتهرت كل ولاية باثنية محددة ، تعد الخرطوم أصغر ولاية من بين ولايات السودان الثمانية عشر من حيث المساحة بينما تحتضن ثلث سكان السودان البالغ تعدادهم حوالي الاربعين مليون نسمة .

تكاد تكون الخرطوم المدينة الوحيدة في العالم ماضيها افضل بكثير من حاضرها من حيث التحضر ومواكبة التطور في العالم الغربي فكانت تلتقي فيها عدد من الحضارات الغربية والشرقية والافريقية ويتسوق فيها اثرياء العرب والافارقة وهي سوق كبير للعطور الباريسية والبدل والاحذية الايطالية وتجارها من الاغريق واليوانيين واليمانيين وقليل من الاسر اليهودية العريقة وغيرهم كل ذلك كان حتى نهاية سبعينيات القرن الماضي ومطلع الثمانينيات والتاريخ وثق طلب الشيخ زايد آل نهيان من الرئيس جعفر نميري ” ١٩٦٩ _ ١٩٨٤م حين طلب منه بعض الخبراء السودانيين وقال له ” ابي ابوظبي تكون متل الخرطوم ” .. فاين الخرطوم الان ؟ ،  التي عبثت بها الايادي الآثمة بعد ان كان يتغزل فيها المثقفين العرب حين قالوا : ” القاهرة تكتب ، بيروت تطبع والخرطوم تقرأ ” وكل ذلك ذهب ادراج الرياح واصبح اثرا بعد عين الا من بعض الشواهد مثل المباني التي شيدت على الطراز الانجليزي ولا يوجد لها مثيل الا في العاصمة المصرية القاهرة والعاصمة البريطانية لندن مثل مبنى جامعة الخرطوم ، القصر الجمهوري القديم . البوستة .. مدرسة جمال عبدالناصر ” كلية الاداب جامعة النيلين حاليا وفرع القاهرة سابقا .. وغيرها مثل مدارس كمبوني والاندية ..

 

الجيش السوداني

هذا الارث التاريخي قضى على ما تبقى منه الجنرالان البرهان وحميدتي امراء الحرب التي اندلعت رابعة نهار السبت ١٥ ابريل ٢٠٢٣م وتجردوا فيها من كل انسانية وتخلوا عن اخلاقيات الحروب ان كان في الحرب اخلاق ، ابتداء من مواقيت اندلاعها مرورا بدوافعها التي لم تتجاوز طموحهم الشخصي او اشباع رغبات حلفاءهم في الداخل والخارج ثم انواع الاسلحة التي استخدموها لم يتبق منها الا الذي لم يملكوه .. وحقا بما شهدته الخرطوم لو كانوا يملكون قنبلة ذرية او نووية لما تورعوا ان يستخدموها .. احرجوا مواقفنا حين كنا نتهكم في رؤية قادة الدول الغربية الذين يعتقدون جازمين بان حكامنا في الشرق الاوسط غير راشدين لامتلاك اسلحة فتاعة وانهم سيستخدمونها لاتفه الاسباب ..

 

الخرطوم يا سادتي شهدت احداث كثيرة نذكر منها الكبيرة حيث في العام ١٩٧٦م اندلعت فيها بما يسمى المرتزقة وهي الاحزاب الوطنية التي تحالفت ووجدت دعم من الرئيس الليبي معمر القذافي وغزت الخرطوم لتقتلع حكومة جعفر نميري واحدثت بعض الخسائر ولكن لم تهتز عاصمة الصمود ولم يشرد اهلها ولم تبدد مكتسباتها .. ثم كانت احداث وفاة الزعيم جون قرنق بحادث الطائرة الشهير بعد اتفاقية نيفاشا ٢٠٠٥م وراح ضحيتها نفر كريم لكن لم تهتز عاصمة الصمود .. ثم اجتاحت حركة العدل والمساواة بقيادة الدكتور خليل ابراهيم الخرطوم بمدخل مدينة ام درمان مايو ٢٠٠٨م ووقع عدد من الضحايا ولم تهتز عاصمة الصمود وفي كل الاحداث لم يستحدم سلاح ثقيل ولا يتجاوز الاسلحة الشخصية ” الكلاشنكوف ” وخلال الحقب المختلفة منذ استقلال السودان في العام ١٩٥٦م وحتى تاريخ اندلاع هذه الحرب الجارية الان شهد السودان عشرات الانقلابات العسكرية منها من نجح ومنها من فشل لكنها لم يصحبها سقوط اخلاقي من قادة تجاه شعبهم كما يحدث الان ….

حرب تجاوز قادتها فيها كل المعايير الاخلاقية حيث لا تستطيع الكلمات ان ترسم المشاهد المفزعة التي احدثتها هذه الحرب وقضت على عشرة مليون نسمة ، نعم قضت على عشرة مليون نسمة هم سكان ولاية الخرطوم وهذا الرقم ليس صيغة مبالغة لان من تبقى من هؤلاء العشرة مليون غير الذين قتلوا وشردوا  داخل الخرطوم اجساد بلا ارواح يموتون في كل ثانية وكل دقيقة من دوي المتفجرات وقذائف الراجمات وروايش الاسلحة الفتاكة بجانب الوحوش التي تنتهك حرماتهم وتدخل منازلهم تروع اطفالهم وتزل حرائرهم وتبدد قوتهم وتستبيح كل حرماتهم .. اما الذين قضوا نحبهم احصائية تكذبها كل الارقام المذكورة اما عشرات الالاف الذين استزلوا في البلدان المجاورة وإن اكرم وفادتهم بعض حسن الجوار مثل مصر  لكن في الواقع لا بواكي عليهم وعلى كرامتهم من بني جلدتهم  .. وفوق كل ذلك الاصرار على قتل الأمل ولو بهدنة تصمد بعض سويعات لعل الاسر تقتات من خشاش الارض إن تركت فيها آلة الحرب شئ يسد الرمق غير الجثث المتناثرة وقطع البارود وركام البنايات .. وتقسم اهل السودان بين قلوب واجمة هدها روع الفاجعة وقلوب مبعثرة بدول العالم مقطعة الانياط تتمزق بين الرغبة في التضحية من اجل من بقى من اهل السودان وبين العجز البشري الا من رحمة رب العباد لمن تمسك بالايمان ..

 

الجثث التي خلفتها الحرب في السودان

المشهد الأخير .. قمعذرة لك ايها النيل العظيم إن تبدل لونك بعصارة لحم ابناءك وهنيئا لاخوتنا في شمال الوادي لم نضف اليه بلحمنا ودمنا  الا نخوة وشهامة وعزة وإباء .. وهنيئا للقنوات العربية والاجنبية بهذه المشاهد التي تتصدر الاعلى متابعة وجاذبية ..

 

الجثث التي خلفتها الحرب في السودان

والوعد ستكتب خرطوم اللاءات الثلاث بدماءنا ” لا ” جديدة .. لا للخيانة والغدر ! … سؤال برئ للذين يطلقون على هذه الحرب ” حرب الكرامة .. أي كرامة تعنوا ؟ .. ولا كرامة لبطل بارواح شعبه !!…